في شهر أبريل (نيسان) من العام 1925، بعث المدير الأدبي لمنشورات تشارلز سكريبنر الأميركية، ناشرة رواية «غاتسبي العظيم»، الى مؤلف الرواية سكوت فيتزجيرالد، رسالة يقول له فيها تعقيباً على إخفاق الطبعة الأولى من الكتاب في الانتشار بين القراء: «مهما يكن من أمر، أعتقد أن في إمكاننا أن نكون على يقين بأن هذا الكتاب الرائع سيفرض نفسه ما إن ينجلي غبار تلك العاصفة النقدية التي واجهته وتبدو مليئة بالهراء». صحيح أن الرواية تأخرت كثيراً بعد ذلك في تحقيق نبوءة المدير الأدبي، لكنها اليوم تعتبر من العلامات الأساسية في الأدب الأميركي في القرن العشرين. وهي لا تترجم فقط الى لغات عدة ولا تتوقف عن الصدور في طبعات إنكليزية متلاحقة، بل تُحوّل الى أفلام سينمائية بين الحين والآخر، وتدخل في الثقافة الشعبية، من دون أن ننسى أن ممثلة نيويوركية شابة كان اسها سوزان ألكساندرا، ما إن بدأت تخوض عالم الشهرة حتى أعطت لنفسها اسم إحدى شخصيات الرواية: سيغورني ويفر. * أولاً، وقبل أي شيء آخر، لا بد من افتتاح الكلام على هذه الرواية بالإشارة الى أنها يمكن اعتبارها رواية الحلم الأميركي بامتياز. أو هكذا نُظر إليها دائماً، حتى وإن كان كاتبها قد عاش ردحاً من عمره في باريس كواحد من أفراد تلك الحلقة الذهبية من الكتاب والفنانين والمثقفين الأميركيين الذين آثروا الحياة في عاصمة النور، على الحياة الأميركية - والذين صورهم المخرج والممثل وودي آلن في شكل بديع في واحد من أفلامه الأخيرة «ضوء قمر في باريس»، مصوّراً في طريقه فيتزجيرالد نفسه وامرأته الحسناء زيلدا -. بل لعل في إمكاننا أن نقول إن فيتزجيرالد يبدو، ذات حقبة، من أكثر الكتاب الأميركيين رفضاً لحياة الحلم الأميركي. وما روايته «غاتسبي العظيم» سوى الدليل الأوضح على هذا. فهنا، وكما في العديد من رواياته الأخرى، أتى فيتزجيرالد ليؤكد عدم اهتمامه في أدبه إلا بفضح أولئك الأشخاص الأثرياء الذين، كما الحال غالباً في أميركا، حققوا ثرواتهم على هامش القانون، لا في ظلّه. ثم راحوا يعيشون الحياة معتقدين أن المال يشتري كل شيء. المال يجعلهم قادرين على الحصول على ما يستحقون، وبخاصة على ما لا يستحقون. وهم غالباً ما يفشلون، تماماً كما حال بطل هذه الرواية. * لكن، هل في إمكاننا حقاً أن نعزو «بطولة» الرواية الى غاتسبي نفسه؟ ليس الأمر مؤكداً، بالنظر الى أن المكان الذي يحتلّه جاي غاتسبي فيها وفي أحداثها ليس المكان الأول. صحيح أنه يشغل أفكار بقية الشخصيات وأوقاتها، لكن هذه الشخصيات تعيش بدورها حياتها، وهي حين تتحلق من حول غاتسبي، فإنما تفعل ذلك متسائلة عنه وعن جذوره، وعما يفعله هنا وكيف صنع ثروته وحياته، وكيف أن في إمكانه الآن أن يصنع كل شيء؟ وهل حقاً سيمكنه هذا حتى النهاية؟. في اختصار، يمكن اعتبار «غاتسبي العظيم» حكاية «خاسر» منظوراً إليها بأعين أولئك الذين يريدون أن يفهموا لماذا هو خاسر مع أنه يملك كل شيء؟ * إذاً، تُحكى لنا هذه الرواية التي تدور في العام 1922 في نيويورك، في عز سنوات عصر الذهب الأميركي المجنون، على لسان نك كاراواي، ذلك الشاب الثلاثيني الآتي من قلب الغرب الأميركي الأوسط ليعيش في نيويورك، حيث يمارس تلك المهنة التي سيكون لها هي الأخرى عصرها الذهبي لاحقاً: مهنة المال والمصارف. والحقيقة، أن كاراواي حتى وإن كان يلعب دوراً أساسياً في الرواية التي يحكيها لنا، ليس هو البطل هنا. إنه الفتى الذي «يكتشف وجود البطل» ويروح يحدثنا هنا. بل يكاد يحوله الى أسطورة، وإن بالمعنيين السلبي والإيجابي للكلمة. فهو، في روايته يبني له ذلك الصرح الاجتماعي والشخصي المدهش. وهو الذي سيقول لنا كيف ولماذا يتهاوى ذلك الصرح. أما أهمية غاتسبي بالنسبة الى كاراواي، فتقوم في أن جزءاً أساسياً من شخصية هذا الأخير، سينبني انطلاقاً من علاقته بذاك الذي سيكتشف ذات يوم أنه جاره في السكن: الجار الغني، الناجح، الفاتن. وبالتالي، فإن الحكاية تبدأ مع كاراواي وتتواصل معه زمناً قبل أن يطلّ غاتسبي. وهذا الأخير سيطل بشخصه متأخراً. قبل ذلك، سنلاقيه من خلال الحديث عنه، لكن بعد فترة من إقامة كاراواي في شقته الصغيرة المتواضعة المجاورة لفيلا ضخمة، سيعرف لاحقاً أنها تخص الثري الشاب الناجح غاتسبي. في تلك الأثناء، سيكون كاراواي قد ارتبط بصداقة مع ابنة عم له تدعى ديزي، تعيش بدورها في المنطقة مع زوجها توم بوكانان الذي كان زميلاً سابقاً لكاراواي في الدراسة. وذات مساء، يحدث لكاراواي أن يزور توم وديزي في بيتهما ليلاحظ من فوره أن حياتهما ليست سعيدة إلا ظاهرياً ومن الخارج... لا سيما بالنسبة الى ديزي، الحسناء، التي تبدو غارقة في نوع من الضجر الزوجي، ما يجعلها تمضي معظم وقتها مع صديقتها جوردان باكير، لاعبة الغولف المحترفة، والحسناء ذات التجارب المعيشية الحافلة. وإذ تتوطد العلاقة بين توم وكاراواي، يطلب توم من هذا الأخير أن يرافقه ذات يوم للقاء صديقته الحسناء ميرتل، وهي زوجة لعوب لصاحب كاراج لتصليح السيارات. وهكذا، إذ يكتشف كاراواي أن لزوج ابنة عمه عشيقة، يبدأ بالتردد من دون مواصلة زيارة منزله. ما بات يهمه من هذه الصداقة العائلية، كما يبدو، لم يعد أكثر من الإبقاء على العلاقة التي بدأ يقيمها مع لاعبة الغولف جوردان. وكاراواي، سينتبه هنا، وأخيراً، الى وجود غاتسبي من خلال جوردان، فهي ذات يوم تبدي دهشتها من كونه لم يتعرف بعد، الى جاره غاتسبي، مع أن كل الناس هنا يتحدثون عنه وعن ثروته الخيالية وشبابه الفاتن. * هكذا فقط يدخل جاي غاتسبي على خط الرواية من خلال جوردان، وبالتالي من خلال كاراواي، الذي سيقول لنا مقدار الذهول والانبهار اللذين يشعر بهما حين يبدأ هو بدوره ارتياد الحفلات الصاخبة والمتواصلة التي يقيمها غاتسبي في دارته. في تلك الحفلات، كل شيء حاضر: المشروبات والنساء والأحاديث السياسية والأفكار الجديدة وقصص الغرام. لكن، تحضر أيضاً تلك الأسئلة الحارقة والشائكة حول غاتسبي، الأسئلة التي ينقلها إلينا كاراواي في محاولته فهم شيء حيال صديقه الجديد هذا، لا سيما بدءاً من اللحظة الأولى التي يتلقى فيها أول دعوة من غاتسبي لزيارته. إذ منذ تلك اللحظة، تصبح الرواية نوعاً من التحقيق الذي يحاول كاراواي من خلاله سبر أغوار هذا الشخص وفهم خلفياته وتاريخه. ثم بخاصة، ما إن تتعمق صداقتهما، فهم سر حزنه العميق. غير أن كاراواي، لن يمضي كل وقته في البحث والتحقيق. ذلك لأن فتنة غاتسبي غمرته بدوره... لا سيما حين يكتشف أن غاتسبي يحاول مغازلة ديزي وهذه تتردد. والحقيقة، أن في هذه اللحظة بالذات تبدأ الرواية الحقيقية، حيث تبدأ بالدوران تلك الحكاية المدهشة التي يشهد عليها كاراواي. بل يكون واحداً من أهم عناصرها، إذ راحت المجموعة تتشكل دائرة صداقة وعلاقات فريدة من نوعها: كاراواي، توم، غاتسبي، دايزي جوردان... وصولاً الى ميرتل، عشيقة توم. ولن نقول هنا كيف سينتهي هذا كله، فقط سننقل العبارة التي تختتم الرواية على لسان كاراواي: «وهكذا، كنا تسير قدماً الى الأمام وكأننا في مركب يسير عكس تيار يحاول من دون هوادة أن يدفع بنا الى الوراء نحو الماضي». *إذا كانت رواية «غاتسبي العظيم» قد أخفقت حين صدورها على الأقل، في أن تكون رواية الشبيبة الأميركية في العصر الذهبي، فإنها كما أشرنا استعادت مكانتها في سنوات الستين والسبعين، بعد عقود من صدورها ومن موت كاتبها فيتزجيرالد (1896 - 1940) الذي كان بدوره مع امرأته الحسناء زيلدا حكاية أميركية ذهبية في عصر الجاز والسينما والرقص المجنون والحج الى باريس. ومن المعروف أن فرانسيس سكوت فيتزجيرالد قد كتب للسينما الهوليوودية التي اقتبست معظم رواياته، ومنها «حنون هو الليل» و«العملاق الأخير». كما اقتبس دافيد فينشر قبل سنوات، فيلماً من روايته الغريبة «حالة بنجامين بوتون الغريبة».

عن صحيفة الحياة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم