هل يخشى المصريون الحلم؟؟ وهل يخشى المصريون الثورة؟؟ وما مغبة الأحلام إن زارتنا؟ أسئلة بارزة في رواية الفيشاوي للقاصة والروائية غادة العبسي حين تروي سيرة أهل قرية "فيشا النصارى" في رواية امتازت بالنفس الطويل غير المتهدج، والمعمار الذكي، والإيقاع المتنوع والمنضبط، تروي فيها فصولا من سيرة وطن يتجاوز مداها الزمني القرن مع اشارات أكثر إيغالا في التاريخ، ويتضافر فيها التاريخي مع الميثولوجي والديني، وتتجاور فيها الفنون والموسيقى.. وكأنها رواية تعتمد على روافد ومكونات الحضارة المصرية.

تتحدث غادة عن وهج البدايات وفي باكورة رواياتها تطاردها غريزة البوح والاعتراف وهما سمت التجارب الأولى وكأنها تعد قارئها برواية كل ما عرفته وكل ما عاينته من سيرة هذا الوطن، لذا جاءت الفيشاوي رواية أجيال وكأنها تستحضر التاريخ المصري على زخمه وثرائه مخافة المحو والنسيان ونحت هويته، وتجسد الفيشاوي نموذجا فريدا للرواية التاريخية.. حيث تحدي الساردة فيما مارسته من "انتقائية" في الاخبار بالوقائع التاريخية عبر قصة هذه الأسرة المصرية.. ما الدال؟ وما الحدث التاريخي الفارق الواجب ذكره حتى ولو لم يكن ذو صلة مباشرة بالأبطال.. هـنا خلفيات الأحداث بأهمية أبطال الرواية الرئيسين، فالسياق ينازعهم البطولة، والجو العام (الموود) بجاذبية شخصياتها ويثير شهوة تتبعه. الحكمة المنثورة وعذوبة اللغة سمتان بارزتان أيضا بطول الرواية أبانتا فلسفتها الدفينة: "العمر يركض، ولايزال القلب يركض في صدري مثل فرس آبق من كرباج سيده، لستُ قوياً كما يظنون.. قوة الآيل الذي يهرب من الفهد الجائع ليست بقوة..." وما بين الجمادات والطيور، والبشر والأرواح (الصاعدة لبارئها أو التي نزلت لتوها لعالمنا) والأطفال الُرضَّـع، والمرأة والرجل، والأجانب وأصدقاء الطفولة... تنوَّع الرواي وتعدد بطول الرواية، وتولى زمام السرد الأبطال الرئيسيون والشخصيات الثانوية.. وجميعهم ورطتهم الساردة في حكي الرواية ولو بجزء يسير منها في ملحمة فريدة وسرد بوليفوني يليق برواية وقائع ما حدث للمصريين عبر سني تاريخهم. في (الفيشاوي) تنتصر العبسي للأنثى على المستوى الجمالي، فسرد النسوة في الرواية أعذب وأشف من السرد الذكوري وبوح الجدة "سرورة" عميق ملغز أقرب للعدودة الفلكلورية بسمتها وإيقاعها الباطني. "سرورة : آه .. لو لم يتركنا علي ! لماذا شردتَ من أهلك يا بنيّ؟ ولماذا تلك المرأة التي لا يبدو أن شيء يكسر إرادتها ولا حتى الزوج الذى قذف بها وبابنته إلى مصير مجهول ؟ ولماذا يتزوج الرجل من امرأة صلبة لا تنكسر؟ ما جدوى الحياة مع امرأة لا تشعر بالانكسار؟" وتنتصر الرواية للأنثى الساردة وشهرزاد الحكي حين تجعل في أحد فصولها أنثى الحمام (لا ذكوره) هي من تتكفل بأمانة السرد للفراخ الصغيرة. أنا كذلك أحب "الذكور، ولكن لدي حتى الآن ثلاثين ابنة، ستصير كل منهن جدة في يومٍ من الأيام تحكي للصغار الحكايات." تُـصدِّر غادة كل فصل من فصول الرواية التسع (والتي لا تخل من دلالة رمزية بعددها) بجديلة من التراث المصري على اتساعه.. فتستدعي نصا فرعونيا وأغنية فلكلورية. وكـلا المنسيين المهجورين تستأنس بهما الساردة، وتغزل بمزاوجتهما (التاريخي والغنائي) متكئ للسرد.. فتُـصدِّر فصولها بمقاطع بليغة وذوات دلالة من قصة الفلاح الفصيح الذي مُـدَّ حبسه لعذوبة ومُـر شكواه: ‘‘أنت يارب الصمت! أعد إلىّ ماشيتى حتى أسكت عن الصياح الذى يزعجك!’’ فتتساءل من هو الفيشاوي؟؟ هل هو "علي" أم طه ولده؟ أم أبيه الشيخ عبد الله؟ أم حفيده أحمد؟؟ أم هو الجد الأكبر لكل المصريين"خنوم أنوب" الفلاح الفصيح؟ أم هو كل مصري يمكن أن يكون تاريخه الشخصي قصة كل المصريين التي لا ينقطع تواترها ما حيينا؟! لذا كانت البداية بفصل يستعرض مواقيت الزراعة في مصر وشهورها القبطية إلماحا لسيرورة الزمن وتكرار الحكاية الأبدي، وهو البُـعـد الذي استثمرته العبسي بذكاء عبر استدعاء التقويم القبطي وردها الاعتبار للثقافة القبطية التي لاقت التجاهل والتغاضي عنها كأحد جذور الثقافة المصرية. في (الفيشاوي) تنكئ العبسي جرح الطائفية المصرية ولكن بمبضع جراح رحيم.. لا ألم.. فقط تُـشـرِّح طبقات الاحتقان وأسبابه في اللاوعي الجمعي المصري، كيف تولَّـد التحيز ضد مسيحيي مصر للدرجة التي يفضل الناس فيها أن يتحول اسم القرية لفيشا "الصغرى" بدلا من فيشا "النصارى". وفي سبيلها لذلك تزرع العبسي هذا البُـعـد بنعومة بدءا من حكايات "إلياس جاد الرب" مالك حدائق الكروم و"إيليا" راعي كنيسة العذراء والأم "ماريانا"، ثم الماحا لكراهة النصارى وجذر هذا الشعور بضرب المباشر القبطي "بولس" لمحمد أبي الشيخ "عبدالله" جـد أحـد أبطال الرواية. "لماذا يكرهنا المصريون؟ هل هو الحقد والغيرة اللذان يأكلان قلوب الضعفاء تجاه من هم أقوى وأقدر؟ أم هو دين المسيح الذي نعتنقه؟ مثلما يكرهون الدائنين حملة القراطيس النصارى؟" ولا تتركنا العبسي إلا وقد أنارت ومضة لدور المسيحين البطولي في الوجدان المصري بخلاف الأنماط الجشعة التي صادفناها في الرواية من قبل حيث "جرجس" ابن "عوض" وقد عاد من حرب فلسطين يحكي بسالة المقاومة، لكن اللافت في تشريح هذه العلاقة هو مفاجأة الساردة للقارئ قرب نهاية الرواية باكتشاف أن أخلص أصدقاء البطل "غريب هوى" كان مسيحيا تخرج جنازته من كنيسة وأن سرا قبطيا "دفينا" شاطره معه البطل منذ بداية الرواية!! "كأن جنازة ‘‘علي’’ تُرفع من جديد ولكن بدلاً من أن يخرج نعش ‘‘غريب هوى’’ من مسجد ‘‘أبو العلا’’ خرج من كنيسة ‘‘العذراء مريم’’" الغنائية في الرواية لغةُ ومضمونا، وفيها تحتفي الساردة بالغناء إما بتصديرها لأغان الفلكلور المصري مع بداية كل فصل، أو بأغان الشيخ المنيلاوي أحد رواد الغناء المصري التي نوشك أن نطرب لسماعها في الرواية على لسان بطلها "علي" ذو الحِـس البديع. أو حتى في الإخبار بالحرب حين تعلن عن الخطر من خلال الموسيقي والغناء عبر غناء طفل في إشارة لحرب الكويت: "‘‘ومادام يا ربي ..خلقت لي دمعي.. من حقي أبكي ..من حقي أبكي.. إن شالله أبكي دم’’ بُهِتُّ، وشعرتُ بطعنةٍ نافذة في قلبي، حاولَت سلوى إخفاء دموعها، وحاولتُ أنا إستيعاب ما أسمع وأرى، حينئذٍ فقط أيقنتُ أننا داخل خط النار، الكل يدور في مدار واحد حول شمسٍ واحدة، تماهت كل الحدود في تلك اللحظة عندما غنّى أحمد. " الرواية الأولى للعبسي تنضح بمعارف - لا اشارات - حياتية وتاريخية وفلكلورية تستشف أنها جُـماع قراءتها وبحثها ومن قَـبل تكوينها المماثل للتراكبية المصرية الفريدة، لذا لا غرابة أن تنثر العبسي أساطير "ساقية العفريت " و"فتاة سرب هيت" و"الشيخين بهلول وهارون"، فضلا على العديد من محطات تاريخنا الوطني، وملامح من جذور ثقافاتنا وفنوننا المصرية على تنوعها واتساعها ضمن (الفيشاوي) التي تحتفي بالثورة المصرية بكافة تجلياتها وصورها ضمن ما تسرده من أحداث بدءا بثورة 19 إلى ثورة 25 يناير مرورا بانتفاضة 18 و19 يناير ومن قبلهما ثورة 52.. ولا تنس العبسي الثورة العرابية الحالمة بالكرامة الوطنية ومآلها فتخُـصها بالذكر على لسان المارشال "جراي": "عن أي ثورة تتحدثون أيها الحمقى ؟ عن ثورة عرابي ؟ ذلك الجندي الحالم الذي لا يفقه شيئاً عن السياسة وألاعيبها؟ ماذا كان مصيره ومصير تلك الثورة ؟ سيكون هناك دائما شركسي خائن مثل "علي يوسف" يفتح لنا الأبواب في التل الكبير، ستنتهي تلكم الفوضى قريباً جداً كمثيلاتها في السابق. " وفي حين تجعل الثورة العرابية على لسان مستعمر هو المارشال الإنجليزي قائد القرنص إلا أنها تجعل ثورة 25 يناير مروية الشارع/ السارد، وعندئذٍ تُـفسح الميدان للميدان: "عيش ..حرية.. عدالة إجتماعية.. قانون الشارع الأزليّ." ويظل استخدام الرمز في الرواية من أعذب ما يمكن فتتجلى مفردة مثل "عفريت الديك الأحمر" مرة مع واقعة محاولة ديك أحمر فقأ عين البطل بالفعل حين تركته أمه وصعدت لسطح منزلهم للخبيز، ومرة مع حدوتة "طه" الأب الذي يحكي ذكرياته مع مصنع "الديك الأحمر"، وأخيرا مع مناجاة "نور" لجدتها حين تشكو لها تصفية الأمن لعينها في الثورة المصرية: ‘‘عفريت الديك الأحمر فقأ عيني يا سِتّي’’ رواية الفيشاوي للقاصة والروائية غادة العبسي تقدم نموذجا عذبا للرواية التاريخية.. بناء محكم ومتماسك وسرد عذب ذكي وشفيف، وحكاية أسرة مصرية شهدت أجيالها حراكـا اجتماعيا دفع بجيلها الأخير للقيام بالثورة بفضل تضحيات رجل قياسي مصري خاض حروبا كثيرة كان أشرسها حربه ضد الفساد، ومحاولته ألا يأكل حــراما ويالها من حرب ضارية! "أكتشف أن قصة حياتي هي ذاتها قصة بلادي، مهما حاولوا تشويهنا أو إقصاءنا، أحمل أبي الذي مهّد ورصف تلك الشوارع بوابور الزلط.. صنع طريق الثورة .. مضى يهتف ضد الإنجليز، وأحمل أماً عانت الفقر والحرمان ثم ماتت في بطن سفينة غارقة، لي جدٌ وجدة زرعوا هذه الأرض، ولي أولاد وقفوا في وجه الطغاة يصنعون مستقبل الوطن.." لولا ممحاة برائحة المانجو حرص "طه" على توفيرها لأبنائه، ولولا رفاهة نسبية وتعليم جيد، لما فكر جيل التويتر في الثورة ولما وجد وقت وترف للتفكير فيها، وكأن جيل الآباء المتوجسون خيفة من التغيير وعلى التزامهم بالكنبة قد نزلوا للميدان وشاركوا في ثورة مصر عبر أحلام أبنائهم. في الرواية الجد "علي" لا يحلم كوابور الزلط الذي كان يقوده، والأب "طه" على نبله يُـضـيِّـع حلمه وحبه ولا يستمسك به، لكن الحفيد "أحمد" يحب على أنغام (الأحلام الاثنى عشر) للموسيقي العالمي جان ميشيل جار ومن ضمنها حلم الحرية فنراه يجايل الثورة المصرية ضمن أحداث الرواية، يعاينها ويشارك فيها وينجو بالنهاية، وكأن العبسي ترى أن ما ينقص المصريين هو الحلم وأنه وحده هو طوق النجاة إن أمكنت في لحظتنا الراهنة، وكأن غادة الوارثة لفصاحة جدها "خنوم أنوب" تتنبأ أن الجنة للحالمين وأن الحلم هو طريق نجاتهم.

رواية "الفيشاوي" غادة العبسي دار الساقي 2016

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم