بخطىً وثّابة وعزيمة فولاذية يشقّ الروائي الجزائري الصدّيق حاج أحمد المعروف في الوسط الأدبي باسم "الزيواني" طريقه نحو التألق والفرادة والكتابة المدركة لمسارات الاحترافية

 فبعد نصه الإبداعي الأول "مملكة الزيوان" الذائع الصيت، الذي تشكّلت مادته بين ما هو أوتوغرافي وما هو جغرافي للسارد، راصدا فيه تحوّلات المجتمع الصحراوي المحلي (التواتي)، على أصعدة مختلفة زمن السبعينيات والثمانينيات، ها هو في روايته الجديدة "كامارادْ - رفيق الحيف والضياع" التي صدرت مؤخرا عن دار فضاءات الأردنية يستحضر موضوعة الحَرْقة وخبايا الهجرة السرية للأفارقة نحو الألورادو الجديد، بجمالية جمعت بين التراث الإفريقي بهوامشه الأسطورية و معتقداته الشعبية و ذهنياته الوجدانية و بين الواقع الجديد والمعيش بسلطته الرقمية وفضاءاته السبرانية وعوالمه الافتراضية وشبكاته الإجرامية المتاجرة بأجساد البشر وأحلام يقظتهم المترعة بأماني الوصول.

"كاماراد" سرد مزج فيه الزيواني بين الواقع والمتخّيل، بين الإنسان الإفريقي ومثيولوجياته وثقافته وأحلامه وبين مغامراته في سبيل البحث عن حياة معاصرة أفضل، يحلم بالوصول إليها في الضفة الشمالية و من أجلها يضحي بذاته وممتلكاته الشحيحة، ويلبس المقامرة صدرية للنجاة من بؤر البؤس والحرمان والفقر والجوع، تلك البؤر في النهاية هي نصيبه في هذه الحياة. هذه الرواية تعد العمل الثاني في المنجز السردي للزيواني، وبه انخرط في حقل الكتابة الواعية وفنيّاتها، و قد تطوّر تطوّرا ملحوظا بالمقارنة مع مملكة الزيوان، من حيث التحكّم في استراتيجية النص، وألاعيب الحكي، وانزياحات الأساليب المعطّرة بالعذوبة، والانسيابية وروح الدعابة والعفوية، التي تعطي للقارئ نَفَس المتعة، والمؤانسة لاستكمال فصول الرواية. وأنا بوصف الزمالة والصداقة والمثاقفة بيننا في هذا النص وغيره، اطّلعت باكرا على مشروع "كاماراد" منذ كانت فكرة تختمر في عقله، كنت شاهدا على مجريات حملها، ثم مخاضها العسير، حتى ميلادها أخيرا. لقد وقفتُ في هذه التجربة على النقلة النوعية لدى الزيواني والخبرة التي بات يكتسبها في تقنيات السرد وآليات الحكي المؤطِر لخطاب روايته الجديدة، التي جمعت بين قوة الثيمة، وجمال اللغة و لذّة السرد ووجبة المعرفة، مع حبكة الحكاية، وتعدّد التقنية.

 ثيمة النص اختار الزيواني ثيمة نصه بذكاء نادر.. وقرّر أن يكتشف في رواية "كاماراد" عوالم الهجرة السرية، وهوامش الأفارقة في مسار تحقيقهم حلم الهجرة إلى أوروبا، وما يتخلّلها من مغامرات، وتراجيديا، وانكسارات في طول الطريق المحفوفة بالمخاطر والمتاعب والقسوة والضياع والتيه، وحتى الموت في كثير من المحاولات لأفارقة آخرين. وقف النص الجديد للزيواني عند أسباب الظاهرة، وتداعياتها، وتغلغل في نفسيات المهاجرين الأفارقة، ومجتمعاتهم التعيسة، وثقافاتهم القبلية والبدائية، ودخل مُدن الهوامش كاشفا وسطهم المليء بالممنوع والممتنع بواسطة سرد مثير ومشوّق لمسار أبطال روايته (مامادو، إدريسو، عصمانو، ساكو، أليكس، زينابو، سلامتو...و بقية الرفاق..). الحكاية تنطلق من حي شعبي بدولة النيجر يسمّى "جمكلي" و منه ينحدر البطل "مامادو" ورفاقه، الذين يقررون الهجرة إلى فردوس الأحلام ودونها رحلة مليئة بالمغامرة والضياع والعذاب في صحراء النيجر وتمنراست، مرورا بتوات و تلمسان من أرض الجزائر، وصولا للأراضي المغربية ومن الفنيدق يتم اختراق السيّاج ليلة أعياد الميلاد، الاختراق كما الحلم لم يتم و باء بالفشل. من نافلة القول الإشارة إلى أن ثيمة الهجرة السرية للأفارقة من موضوعات الساعة وقضايا الراهن، غير أنها لازالت طازجة وبكرا في الرواية العربية عامة، والرواية الجزائرية خاصة لأسباب يطول ذكرها الآن.

 تقنيات جديدة في السرد عمد الزيواني إلى تقنيات جديدة في خطاب روايته "كاماراد"، منها مزاوجته بين ثقافة الصورة، وثقافة الكتابة أو بين عوالم المديا وسلطة الرقم، وبين سلطة الحرف التي هي ذخيرته ووسيلته في الحكي، حيث توسط الحكاية وتمفصلات السرد حوار بين سينمائي فرنسي يدعى" جاك بلوز" وبطل الرواية " مامادو"، يروي هذا الأخير قصته البائسة وهجرته المقطّرة بروح المغامرة والمخاطرة، قبل أن يُرحّل من مطار الدار البيضاء بالمغرب، عائدا بخيبة لبلده، ليلتقي المُخرج (جاك بلوز) الباحث عن ثأر لكرامته المجروحة في مهرجان (كانْ) السينمائي، يتوافق يوم المهرجان مع خروج مامادو ورفاقه للهجرة في صورة لتراتبية الزمن بشكل عجائبي وعبثي. العجائبية أيضا حاضرة في تقنيات السرد وتمظهرت في متتالية المصادفة، والتفريجات التي كانت تواجه البطل في تراتبية الأحداث، حيث أنه كان دائم السعد يوم الجمعة عندما كان مسلما، وتحوّل السّعد من يوم الجمعة ليوم الأحد عندما أصبح مامادو مسيحيا ظرفيا بجواز سفر ملياني مزوّر، يحمل اسم "كوليبالي روبنسون". ومن العجائبية الموجودة في متواليات سرد "كاماراد" حضور الطلاسم والشعوذة الإفريقية بتعويذة "قونكي" تحديدا، وهي عبارة عن تميمة ذات طابع إفريقي أعطته الأم "سلامتو" لابنها مامادو، الذي كان يوظّفها عند الحاجة في الظروف الصعبة، والورطات والأزمات وينجو منها بغرائبية. ومن التقنيات الموظّفة في الرواية توظيف الوصف المطعّم بالموروث الشعبي الإفريقي، وعلم النفس لمعرفة مآلات الحكاية، فـالرفيق "ساكو" الذي أعطاه السارد أوصاف المكر وسوء الطوية، تجلى عندما تخلى عن رفاقه في باريس ليكامارادْ "تمنراست" وهلمّ جرا... شاكلت فصول الرواية الناظمة لحكاية "كاماراد"، صوّر أهوال القيامة، فمرحلة الفقر والبؤس في النيجر هي (القبر)، ومرحلة قرار الهجرة هي (البعث)، ومرحلة المغامرة والمخاطرة والسقوط بين عصابة تجار الهجرة والخوف من عيون حراس الحدود هي(على الصراط)، كما سميّت مرحلة الاستعداد للوصول إلى الضفة الشمالية، وتخطي الحواجز الفاصلة بين إفريقيا وأوربا بـ( الرّجة الكبرى).

 السرد والمعرفة يتعرّف القارئ في رواية "كاماراد" على عوالم الهجرة السرية وأسبابها، التي ليس منها البحث عن ظروف تحسين المعيشة فقط؛ ولكن منها الفقر، والحروب الأهلية، والمجاعة، والبحث عن الحرية المطلقة، هذه الأخيرة هي من ضمن أسباب هجرة بعض الكاميرونيين الذين يسعون للبحث عن فسحة حرية تتيح للمنحرفين من المثليين تحقيق رغبتهم الجامحة، فسحة لا يجدونها في مجتمعهم الرافض لسلوكاتهم الشاذة. كما يتعرّف المتلقي على طرق وآليات تهريب البشر، والأموال الطائلة التي يصرفها المهاجر السري في سبيل تحقيق أحلامه، ويكتشف أوساط وهامش المهاجرين الأفارقة الضّاجة بالمخدرات، والخمور، والدعارة، وتزوير العملات. في متوالية السرد، وتراتبية الزمن المحدّد بستة أشهر مضبوطة، يتلقى القارئ لمحة عن الثقافة الإفريقية من لباس، وأكل، ورقص، وغناء، وصناعة مدن الهامش لتجمعات المهاجرين الأفارقة المولدة لطرائق صناعات المشروبات الكحولية من أمثال (القورقورو- بيليبيلي- كاسيلي- شومبولو...). إن رواية "كاماراد" للروائي الجزائري الصدّيق حاج أحمد، إضافة فنية وجمالية للسرد الروائي الجزائري والعربي، بثيمتها الجديدة، وتقنياتها الرائعة، والسؤال الذي يفرض نفسه، هل ستسهم هذه الرواية في العناية بالبعد الإفريقي لكتابات شمال إفريقيا؟ وهل ستسهم من جهة أخرى في تحويل بوصلة السرد الجزائري من فتنة ملكوت اللغة، سواء أكانت تشكيلية أم شعرية إلى مجرّة الحكي، وهو ما ركّزت عليه هذه الرواية، هذا الأخير الذي هو مناط الرواية ومنجمها الذي لا ينفد.

أ.عبدالله كروم

أستاذ النقد – جامعة أدرار- الجزائر

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم