لمدن الحديثة باتت تتشـابه في كل خصائصهـا تقريبا وحتى في خصائص سكانهـا رغم الفوارق البسيطة، حيـث انقلبت هـذه الأمـاكن من رموز للتقدم والتحضر إلى آلات إسمنتية تأكل الأفراد والهويات، وتذوّبهم لصالح كيانها القائم فقط على الاستهلاك، وما تكرّسه ماكنة المال التي تتحكم فيها. تبدو رواية “وارسو قبل قليل” للكاتب اللبناني أحمد محسن والصادرة عن دار نوفل هاشيت أنطوان والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر 2016، رؤية ذاتية، إذ أنّها من ذلك النوع المحتال، الذي يضع النص الفعلي خارج الكتاب، ويطرح أفكارا متقدة، ثمّ يترك للقارئ حيزا وافرا من التكوين الحكائي. وقد احتاج ذلك إلى الكثير من التجريب في الأسلوب الأدبي الذي أخرج من خلاله أحمد محسن رؤيته للمدن الميتة وفقا لما يراه واقعا في أزمنة الحداثة التي تكرّس الفراغ الروحي، وتجعل من المدن وأهلها أشخاصا مشتتين بين هويات عدّة، إذ كانت الأخلاق أمرا فرديا وأن المدن في وارسو قبل قليل شأن بالغ الخصوصية. أي، إنّنا لن نعرف عن بيروت ووارسو، إلا الصورة التي وجدها الكاتب فيهما. يلقي أحمد محسن على القارئ الجهد الأكبر في تركيب النص، الذي اجتهد في تفكيكه، عبر زمـان متقطـع، بمكـانـين متباعدين تجري فيهمـا حكـايتان متقاربتـان، وبعدد من الشخصيـات التـي تظهر فجـأة، كي تؤدّي دورها في مشهد ما أو لإتمام فكـرة أراد الكاتـب قولهـا، بلغـة موحيـة ورشيقـة، تقـول اللازم بأقل عدد من الكلمات، وبحضـور كثيـف لأفكـار، نجـد جذورها عند كافكا وكونديرا ونيتشه وغيرهم.

تتوزع أحداث الحكاية على الجدّ يوزيف الذي غادر وارسو وهو شاب عام 1945، وحفيده جوزيف الذي غادر بيروت بشكل نهائي عام 2006، وبين هذين الزمانين يمتدّ السرد. كان الجد هاربا من السوفييت الذين دخلوا وارسو. والحفيد هرب أول الأمر مع جدّه عند الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وفي حرب تموز هرب مرتدا إلى جذوره. بحيث، مضت حياته متشابكة مع حيـاة جـدّه، فكلاهما يعزف حول حروب تشبه “البكاء المتواصل”.

بدا الموت حلا روائيا دفع الكاتب إليه مصائر العديد من الشخصيات، مثل نور، المرأة التي اكتشف جوزيف، متأخرا، أنّه كان يستغلها، إذ تنتحر وتقلب “موازين الله”.

وعبر السنوات الطويلة التي شكلت زمن الرواية مات الجميع؛ الجدّ في وارسو والأب فادي في معارك على محور المالية في بيروت، وزوجة جاكوب في أميركا، وكذلك ألونا والطفل المريض بالتوحّد. كـاد الكاتب يُفرغ المـوت من وظيفتـه، لكـن لا يفوتنا أنـه يرصد مدنا عـانت الحروب والأزمات الوجودية الكبـرى، ذلك ما عكس اختياره لعناوين فصول تعيدنا إلى زلازل سياسية، فترك للقـارئ الاجتهاد في اكتشافها. لقد بدا أحـمد محسن مصـرّا على إجهـاد القـارئ، وهـذا أمر ممتـع وشـاق فـي آن واحـد.

ينشغل جوزيف بضرورة التمييز بين اليهود والإسرائيليين، كما يوزيف عندما كان الآخرون ضدّ يهوديته في بولندا، ولتصبح يهوديته ضدّ الآخرين بمجرد وصوله إلى يافا.

ثمّ ليصير مسيحيا في لبنان، على الرغم من كونه بقي عدميا في داخله. يعمل يوزيف مدرسا للغة الإنكليزية في مدرسة كاثوليكية، يحب ماري مدرسة الفرنسية وتعمّده، إنه يتعمّد مرتين في كنيسة القلب الأقدس، مرة يوم تعمد بالمسيح ومرة يوم تعمد بماري.

يغادر يوزيف بيروت، تماما، كما غادر جدّه وارسو، حتى ليخال القارئ أنه وداع واحد، وداع غير لائق لمدن مهزومة ومنكسرة. عندما كان جوزيف في الثامنة، لم يكن يجد فوارق بين وارسو وبيروت، كان يظن أنهما مدينة واحدة، فالمدن للكبار فقط، كما لم يجد فارقا بين المظاهر اليهودية ومثيلاتها المسيحية. يشبّه الكاتب أميركا بالأبدية، يقول إنّها ممحاة الكوكب هي الجنّة والجحيم في آن، إنّها تحررنا من سجن لتضعنا في سجن أكبر، يسميه معتقل العالم لكنه لم يندم على اختياره بيروت وتفضيلها على بروكلين، وهي المدينة التي هاجر إليها شقيقه.

يتحدث أحمد محسن بنزق عن الروائيين، لكنه يقع في مشاكلهم عينها التي اشتكى منها، إذ نجده مضطرا لوصف موت والد يوزيف بالغاز.

على الرغم، من فداحة ذلك، وعدم الحاجة إلى تحريض المخيلة، ثم نراه يقول إن الشرح لا يليق بالهزيمة، لكنه في الوقت نفسه، لا يتوقف عن إيضاح تلك الهزيمة والتي جعلت من النجاة قرارا غير ذاتي. عندما غادر يوزيف وارسو، كان يعتبر الكرسي أهمّ من جميع الكتب، باستثناء كتب كافكا، ولقد تقدّم السرد وفق هذا التفصيل بالغ الدلالة، فحضرت أفكار كافكا، وبذلك يعرّف الحياة على أنّها متاهة تشبه عالم جوزيف ويوزيف المتداخل على نحو يصعب الفصل بين حياتيهما.

وتبزغ أفكار مثل “الهزيمة هي الحلّ، هي الانتصار الوحيد”، وفي مكان آخر يكتب “التغيير الوحيد الحقيقي هو الموت”. لم يحاول أحمد محسن إخفاء كافكا في النص، ولم يتوقف عن الإيحاء للقارئ، بأنّ الرواية في مكان آخر، تماما، في المخيلة وفي الإدراك الذي تولده الأفكار لدى القارئ.

عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم