البدوي الصغير الناجي الوحيد من ذلك التبدّل وضحيّته في آن معا

قرية سعدون، البعيدة عن المراكز الحضرية، ليس فيها من المعالم إلا بناء أو إثنين كان قد شيّد أحدهما شيخ القبيلة منذ عقود كثيرة لإيواء اليمنيين العائدين من أداء فريضة الحج. الأميركيون أيضا، حين جاؤوا باحثين عن النفط، أقاموا بناء أو إثنين أخلوهما منذ أن تبيّن لهم أن سعيهم للتنقيب عن النفط في خراج القرية لم يوصل إلى شيء. لكن تلك الأيام التي قضاها "المستر دنكان" بين ظهراني أهلها كان أوقع أثرا من الأبنية المشيدة. أحبّه أهل القرية، كبارا وصغارا، حتى أن الأولاد أنشدوا له أغنية جُعلت كلماتها مفتتح الكتاب: "يا صنقول، يا صنقول ليش إنت واقف تبول؟ يا صنقول، يا صنقول ليش إنت واقف تبول؟ يا صنقول..."

كان الأولاد مستغربين كيف كان المستر دنكان يطلق بوله وهو واقف على قدميه. أما "صنقول" فتعني سوار ساعة اليد الذهبي، وقد نُعت الرجل الأميركي بها بسبب شقرة شعره. أحبّه أهل القرية جميعهم إذن، وبالأخص سعدون صاحب الدكان المحدودة بضاعته بقدر حاجة أهل تلك القرية وقدرتهم على الشراء. صار الرجلان صديقين على رغم التبادل غير العادل اللذي أجرياه في ما بينهما. كان سعدون يشتري ليرات الفضة الفرنسية من البدو، بثمن بخس، ليبيعها لصديقه الأميركي، أما المقابل الذي حظي به إبن القرية السعودي فجهاز غراموفون كان من المؤكّد أنه الأول في القرية، مرفقا بخمس أسطوانات لألفيس برسلي.

وقد أتيح للقرية في تلك السنوات (وهي التي أعقبت 1973 على الأرجح) أن تلتقي كثيرين وفدوا إليها. بين هؤلاء ولفريد ثوسيغير المستشرق المعروف الذي سبق وصوله إلى الجزيرة العربية والخليج العربي وصولَ الآخرين إليها. ثم هناك شبان قدموا من البلدان العربية بينهم، بحسب ما يشير الكاتب بالإسم، وهذا ما يبعد الكتاب عن بنائيته الروائية ليجعله مزيجا متردّدا بين الرواية والسيرة، بين هؤلاء إذن خليل الوزير القائد الفلسطيني الذي سيعرف فيما بعد باسم أبو جهاد وقد أتى إلى القرية ليعلّم في مدرستها، وكذلك صلاح خلف (أبو أياد) الذي زامل رفيقه خليل في تلك المدرسة.

المهم أن ما كان أكثر بقاء بين ما توافد على القرية هو ما تركه المستر دنكان ، وهو الغراموفون الذي راح سعدون يدير عليه أسطوانات ألفيس بريسلي كلّ ليلة بحضور عدد من صحبه. ولا تفسير في الكتاب عن تعلّق القرويّ بمغني الروك، والذي عاد ليستبدله بأغنيات سميرة توفيق التي تعلّق بها حتى عشقها، بل وجنّ بها متحوّلا، كما يقول ابنه، راوية الكتاب وبطله، إلى سخرية القرية بعد أن كان أحد وجوهها.

تلك القرية الباقية في زمن أسلافها القدماء لم يكن تحتاج إلى الكثير حتى تُخلب ألبابُ أبنائها. بين الأساتذة الذين ضمّتهم المدرسة الأستاذ عبد الجيل. كان سعدون قد أوصاه بإعطاء إبنه دروسا خصوصية بسبب تراجعه في بعض المواد، غير مدرك أن هذا الولد سيقع في هوى نادين، زوجة الأستاذ، الشابة الفاتنة، والتي تقضي أكثر الوقت حابسة نفسها، أو محبوسة، في بيت الزوج الذي تخطّى أباها عمرا. أما ما أهدته نادين للولد الذي صار فتى فأشياء بينها تسميته بإسم "ألبدوي الصغير"، وعشقه العفيف لها، و نقله من عالم القرية إلى التعلّق بفرقة "آبا" السويدية وبباغنيثا فلكستوغ مغنية الفرقة الأولى، هذه التي هام بها عشقا حتى إلى ما بعد ثلاثين عاما من استعذابه لها ولصوتها، هكذا بما يشبه ما قيل عن ذي الرمّة ألذي "علق ميّة وعشقها وهام بها وظل يقول فيها الشعر عشرين عاما في غير طائل".

وهذا العشق سيتحوّل إلى موضوع الكتاب بعد تردّد الكاتب بين الخيارات المتعدّدة التي لقي نفسه في خضمّها. ألفصول الثلاثة الأخيرة، والتي تمثّل الطواف الأخير في حياة الولد الذي بات مقبلا على الخمسين، تصف سفره إلى ستوكهولم في الخامس من مايو/ أيار 2013 (هكذا بتحديد التواريخ والأرقام، وهذا ما نجده في أكثر المناسبات التي يعرض لها الكتاب) لكي يحضر افتتاح متحف فرقة "آبا". في اليوم الثاني من الإفتتاح أتيح له أن يشاهد باغنيثا فلكتسوغ وقد بلغت الثالثة والستين. هناك أيضا، في ذلك المبنى نفسه، يلتقي نادين، وقد جاءت للمناسبة هي أيضا، ولحدسها أن فتاها البدوي الصغير سيكون حاضرا في المكان.

ذلك المزيج من التذكّر والتخيّل، المتألّف بنبرة يغلب عليها الحنين والرومانسية، لا يفصح إلا قليلا عن ذهاب الزمن في وجهة كان واعدا بسواها. لكن مع ذلك يظلّ أثر هذا التحوّل ماثلا في شخصية ذلك الفتى السعودي. هناك مقاطع قليلة، بل سطور، تشير إلى البدوي الصغير بكونه الناجي الوحيد من ذلك التبدّل وضحيّته في آن معا، مخالفا بنبرته العذبة الكثير مما سبقت كتابته عن زمن التحوّل ذاك.

(*) "البدوي الصغير" رواية مقبول العلوي صدرت عن دار الساقي في 207 صفحات، 2016. عن صحيفة المدن

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم