ماذا تضيف الأعمال الأدبية التي تعالج مأساة الحرب، وتتناول الكوارث التي تحل بالإنسان، وتترصد مشاهد عبثية وهي ناجمة عن صراعات وعنف وثارات على الهوية؟ في زمن تتسابق فيه وسائل الأعلام المرئية لنقل صور وأشكال الموت والذبح والإستهانة بالقيم. إذ تعودَ المتفرجُ على رؤية الجثث ملقاةً على قارعة الطرق أوعلى شاطىء البحر وأصبح يدرك بأن ليس للإنسان إلا دلالة إحصائية كلما يُقتل شخص يرتفع عدد الضحايا وتتغير الأرقام. هذا السؤال عن جدوى الأدب والفنون هو مايلحُ على ذهنك، حيثما يطالعك نص سردي أو حتى فيلم سينمائي مادته مستلهمةً من الحروب الدائرة. يتوالى إصدار الروايات التي تُسردُ حكايات الحرب وتعتمد على قصص الضحايا وتسجيل تحديات من لايريدُ نسيان ذاته الإنسانية في واقع طافح بالموت. تضعك رواية (الموت عمل شاق ) الصادرة من دار أنطوان للكاتب السوري (خالد خليفة) في صميم الواقع السوري، بكل مايحمله من الفجائع والكوارث. ويكتشف المتلقي الموضوع المحوري من العنوان. هنا دال العنوان يأتي واضحاً ومتطابقاً مع المدلول - النص الروائي. يحاول صاحبُ (مديح الكراهية) من خلال (الموت عمل شاق) تعميقَ وعي القارئ بما تشهده سوريا من النكبات الأنسانية. إذ يسعى على غرار عمله السابق (لاسكاكين في مطابخ هذه المدينة) إلى تدوين ذاكرة بلده روائياً انطلاقاً من قصة أسرة سورية. الموت المُحتشد تَسْتهلُ الرواية من لحظة الذروة، يموت الأبُ المؤيد للثورة ويتكفل الأبنُ بلبل بتنفيذ وصيته بدفنه في قبر أخته بقرية العنابية .بأيام قليلة قبل موته يغادر عبداللطيف الذي كان يحظى بإحترام الثوار بلدة (س) عائداً إلى دمشق ليقضي مابقي له من العمر بجوار (بلبل). موت الأب يجمع أجزاء عائلة مشتتة. يحضر حسين وفاطمة للمشاركة في تشيع أبيهم في قرية العنابية التي قد تركها عبداللطيف قبل أربعين عاماً. يبتعدُ الكاتب عن أسلوب المباشر ولايذكرلك القتلى بالعدد. بل يعول على المواقف المعينة والجمل القصيرة لتصوير المشهد. وذلك مايتبين عندما يخبر الممرض الأبن بضرورة سرعة إستلام جثة الأب من المشرحة، لأنَّ جثثاً جديدة تتوافد. لذلك لابُدَّ من إخلاء البرادات والاستعداد لإستقبالها. بعد إنهاء الإجراءات ينتظر الأهل وصول المدير ليوقع على شهادة الوفاة حتى لايواجهون العقبات ومن ثُم تبدأُ الرحلةُ بسيارة ميكروباص إلى مسقط رأس عبداللطيف لكن في زمن الحرب تطول المسافات ويصبح السفر من مدينة إلى أخرى تماماً يكون مثل الإنتقال إلى بلد أجبني بوسائل بدائية. هكذا تختلف الطرق التي تزداد فيها الحواجز بعض عناصرها ليسوا من أبناء البلد ولهجاتهم لاتشبه لهجتك وسحنتهم غيرمألوفة،كما يتحول الإنسان إلى كائن مشبوه سواء أكان ميتاً اوحياً وهو معرض للاعتقال والتحقيق مثلما يحصل ذلك مع جثة عبداللطيف حيث تُحتجز بأحد الحواجز عقب دفع الرشاوى وموافقة رئيس الفرع يُعيد إلى ذويها. هكذا يكابدون معاناة الاستجواب بسبب هوياتهم وانتمائهم إلى منطقة معينة. ولاينتهي مسلسل المعاناة بالخروج من المدن التابعة للسلطة، بل يجدُ أفرادُ الأسرة أنفسَهم أمام محكمة شرعية يستجوبهم المسؤول عن التزاماتهم الدينية والفرائض ويختبرُمعتقداتهم إذ تكون أجوبة بلبل غير مقنعة لذلك يحتجز ليتم تأهيله دينياً. تستغرقُ الرحلة ثلاثة أيام بعدما يقضون ليلة في ضيافة لمياء صديقة بلبل، وليلة أخرى في العراء حيث يريدُ الأخ الأكبرأن يتخلص من الجثة ورميها في البراري وتلاحقهم الكلابُ بعدما تشم رائحة الجثة. أخيراً يصلون إلى العنابية بدون بلبل ويُدفن الأبُ ولكن ليس في قبر أخته. ويقترب بلبل من حافة الجنون وتفقد فاطمة قدرتها على النطق وتصبح خرساء. تنفتحُ الرواية على قصص أخرى وتتم استعادةُ حكاية كل شخصية على حدة داخل القصة الأساسية. العودة إلى الماضي بموازة رحلة الأسرة نحو العنابية يرافقنا الراوي في العودة إلى ماضي الشخصيات التي لاتنفصل محطات حياتها عن تأريخ الوطن، حيث يستبطبنُها كاشفاً خلجات النفس وماعاشته كل شخصية من التجارب وماتنتظره من المستقبل. فكان عبداللطيف متفائلاً بالثورة ولم يكف عن التذكير بأنَّ أبناء الثورة في كل المكان في شبابه كان من أنصار البعث لكن سرعان ما يدرك عدم إخلاص الرفاق ويقضي عمره فى سلك التعليم وأراد أن يربي أبنائه على مبادىء مثالية غير أنه يخفق مرة أخرى، عندما يتمرد الأبن الأكبر ويختار العمل مع نغوم التي يوحي اسمها بشخصيتها المشبوهة. كما تمرُ فاطمة بتجربة فاشلة في الزواج وتنهار أحلامها بالصعود إلى الطبقة الأرستقراطية. كذلك ذاق بلبل تجربة الانفصال عن هيام ويعيش وحيداً يمضي الأيام مع ذكرى لمياء التي لم يتجرأ مصارحتها بحبه لأنه قد خاف من أن لايلقى قبولاً بسبب إختلاف الديانة. إضافة إلى قصة ليلى التي قد أحرقت نفسها رافضةً إرتباط حياتها بمن لاترغب فيه. حيث يحضرُ طيفها في تلافيف السرد. تعويض الخيبات يعلنُ عبداللطيف حبه لنيفين وهو قد صار رجلاً مسناً، كما بلغت الأخيرة الستين من عمرها. ويأتي هذا التحولُ في حياته متزامنا مع إمتداد الثورة. وكسر حاجز الخوف. وهذا يعوض خيباته الأسرية والحزبية مثلما أنَّ الثوار يحدوهم الأمل بأنَّ الثورة تحملُ مستقبلاً مشرقاً وتفتح أفقاً جديداً في حياتهم. ما أن تصلَ إلى هذه القصة حتى تستحضرفي ذهنك رواية ماركيز (الحب في زمن الكوليرا) وتحقيق حلم اللقاء بين بطلين وهما في خريف العمر. يحسب لهذا العمل بأنّه على رغم معالجته لموضوع لايزال متصدراً لوسائل الإعلام ومثاراً للخلاف لكن نجح الكاتبُ في إعطاء المتلقي رؤية جديدة عن خطورة ترهين مصير الوطن بمصير نظام معين .دون أن يقع في فخ أسلوب االخطابات السياسية .

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم