لا يزال جرح العشرية اللعينة ينزف سردا في الجزائر وسيبقى، تمثّل "الحرب الاهلية" ثقباَ أسودَ في تاريخ الأمة الفتية، يصعب الإحاطة بكلّ ألغازه أو يستحيل،وتحاول بعض الكتابات الشّابة الآن استعادته على وجهة الحكي الروائي الّذي لا يستطيع غيره الاقتراب من تلك البؤرة المتفجّرة. ربمّا تكون أقدار السّرد المفاجئة دوما هي من اقترح على الروائي الشّاب عبد الرزاق بوكبّة مدخلا لاشعورّيا لمقاربة تلك الذّاكرة الرّمادية. في روايته "ندبة الهلالي" يغوص الكاتب في شبه سيرة ذاتية لتوثيق الزّمن المنفلت والمتشظّي الذي كان يُحكِمُ سطوته على أقدار الأبطال والمسحوقين والملائكة والشياطين والمومسات ويعبث في مصيرهم حدّ الهلَس.

"ندبة الهلالي"عبارة عن شبكة متقاطعة من السّرديات الصغرى، يتعمّدُ فيها الروائي تشتيت زمن الحكي من خلال الانخراط في استنطاق ذاكرة الوجع المتسرّب من ثقوب الجرح المنسيّ. حكايات أبطالٍ هامشيين جرفتهم الأقدار التاريخية إلى "آلجي" العاصمة الاسطورية لكي يجدوا أنفسهم تحت سماء العراء بل أشكاله السيّاسية، والاجتماعية، والوجودية، عراءٌ بلا حدود. يقذفُ العراء بمنصور بن ذيّاب إلى "آلجي"، مدينة التشرّد والمكر واللامبالاة وهو القادم من قرية "ولاد جحيش" بوصفها أفقا لبلاهة الحقول والبراءة، وجنّة العزلة الغفّل المفقودة، فينخرط في مغامرة اكتشاف عالمٍ مُعقّد.

تنتمي الرواية إلى نمط السرد الجديد الذي لا يحفل كثيرا لتسلسل الأحداث تسلسلا زمنيّا متساوقا، فـ"ندبة الهلالي" تهشّم حلقة الزّمن الصارمة والقَدَريّة وتعيد لملمة زمن الذّاكرة الجريحة عبر مسارات حِكائية متشعّبة بحيث كلّ ذات، كلّ بطل يحمل حكايته وزمنه معقوفا بين أضلعه، يلجُ القرويّون "آلجي" من كلّ فجّ عميق متوثّرينسردياتهم الصغرى. آلجي مدينة لا يلجها إلاّ الغزاة والمتشرّدين. لا يتحرّك زمن المدينة بأبطال الرواية قد أنملة من فرط المَلَلِ واليأس، ولهذا يعود "بوكبّة" بروايته إلى زمنٍ آخر يُقبلُ النسيان السحيق على جهة المستقبل، زمن الوصايا والرسّائل والآثار الذكراوية التي يكتبها "علي بلميلود" للبطل منصور: "كتَب علي بلميلود.. ستشتمُّ رائحتي إذا كُنتَ قادرا على أن تشتمّ هذه الحروف.(ص 166). فالبطل الذي يكابد كل تفاصيل الضّياع الوجودي والسّياسي في المدينة يتلقّى "علامات" ترشده إلى ذاته في شكل رسائل الكترونية، وهي تحمل له حكايات الأجداد القديمة وحكمتهم.

لا يفهم "منصور" لماذا ترك قريته ونزح الى العاصمة متشرّدا حتى يكتشف علاقته بالحَرف والقراءة وهو يمتهن بيع الكتب القديمة في ساحة البريد المركزي، ليبدأ استنطاق المناطق المنسية من طفولته في قريته، مشاهد الغواية الأصلية وهو يذهبُ كل يوم الى المدرسة فوق أتان وخلف "الجازية" التي تكبره بسنوات مُسرّبا يدهُ تداعب حُلمة صدرها فلا يستيقظ وعيه في المدينة إلا بحثا عن فتاته التي غادرت إلى العاصمة وتلاشت مخلّفة فيه يُتم الفطام الأوديبي الذي لا يندمل جرحه في كل نساء المستقبل.. "ليتك تجيئين يا جازية، لتصحبيني إلى قاعة الإنترنيت فالمشي في آلجي بلا ذراع امرأةٍ يُتمٌ كبير." (ص 65)

"ندبة الهلالي" نصٌّ متشظّي وحفريات في وجع مدينة ووجع هويّة لا تكتمل إلا في هُجنتها، في الحكايات الشعبية الجزائرية، تحيلنا أسماء أبطال الرواية (الجازية، ذياب الهلالي، منصور بن ذياب..) إلى الذّاكرة الجمعية لبطولات القبائل الهلالية التي قدِمت من المشرق العربي وتساكنت مع الأمازيغ فامتزجت بهم وتهاجنت لمئات السنين، وبإزاحة السّرد عن مطبّاته الإثنية تكون الهوية اختراعا روائيا بامتيّاز.. "أن نعترف باننا أمّة ليست مستعدّة للتخلي عن عقليتها الشفوية، ول الأمم الأخرى أن تعترف بذلك.." (ص 275)

يعوّل الروائيُّ بوكبّة في نصّه على ابتداعِ دورب شعرية جديدة داخل اللّغة لكي يفجّر مكنوناتها ويعرض قدرتها على استيعاب لحظة تاريخية من أشدّ اللحظات توتّرا وانفلاتا، لغة البوح الجريء والمكاشفة عن مكنون الذّات السحيقة والمهصورة بضيق السّلط الرقابية الحاقّة من كل جهة. نصٌّ روائي بثابت الموسيقى الشعرية لما يملكه الروائي من رصيد شعري متميّز.

تصعبُ الإحاطة النّقدية بنمط الرواية الجديدة لِما تُدمجه من تجنيس شعري وروائي وقصّة قصيرة، وهو النمط الاقرب الى رواية بوكبّة، فالرواية يمكن قراءتها بوصفها رواية تضمُّ إلى متنها نثرا موسيقيا ومجموعة قصصية في الوقت عينه، إنه نمط يحطّم تخوم التجنيس الكلاسيكية وينفتح على أجناسٍ أدبية متعددة، يمُوت فيها المؤلّف لكي يفسح النصّ لتعدد الأصوات والرواة وهم يقدّمون شهادتهم الأدبية لقارئ مجهول.

ــــــــــــــــــــ أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة قسنطينة الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم