أســـئـلـة الألـم وصــور الـخـــراب

يتقلّب الوجع السوري بين حروف عبدالله مكسور في أعماله الروائية الثلاثة: "أيام في بابا عَمرو"، و"عائد إلى حلب"، و"طريق الآلام". والتي يتناول فيها مساراتٍ متعددة في الثورة السورية. الحدث الأبرز اليوم لكثير من الأعمال الأدبية الجديدة، التي بدأت بالظهورحاملة الهمّ السوري الذي أنهكته الويلات المتوالية، من مجازر تلد أخرى، وهجرات تتلوها اخرى في صورة نزوح نازفٍ، داخل البلاد وإلى خارجها، في تحدٍّ للموت، أياً تكن أثمان الحياة ومن أجلها. لم يكن عبدالله مكسور وحده الذي طرق بوابات الألم، وتحسس أوجاعها عن كثب، ثمة كثير، أو بعضاً من الكتاب السوريينن الذين عنيت اعمالهم بإبراز صورة – أو بالأحرى – حقائق مايجري اليوم ، ومنذ خمس سنوات دامية في سوريا. لكنه الوحيد الذي أنتج ثلاثة أعمال، بما تحمله من قيمة أدبية - وهو مثار نقاش مفتوح، في كل نص أدبي - شكلت رصداً توثيقياُ ، أو شهادات حية، حارّة وآنية، لمجريات الأحداث/ الثورة والانتفاضة ومواجهتها بالنار والحديد، فجاءت أعماله، بمثابة ثلاثية روائية، إن جاز التوصيف، تناول فيها مراحل مفصلية في عمر الثورة السورية وتداعياتها الدامية، البدايات وما تلاها تتويجاً بجريمة الإبادة الجماعية المنظمة التي ارتكبها النظام الاستبدادي السوري في حيّ باب عمرو الحمصي، بما أضحى للحدث من تداعيات جمّة، شكلت ملامح وتصورات المواجهة المسلحة المفتوحة على كل الاحتمالات. في روايته "أيام في بابا عمرو"، التي صدرت في 2013 تعرفتُ الى عبدالله مكسور في التفاصيل الدقيقة، لحرب نظام وحشي، ضد شعب ثار من اجل الحرية، فكانت العمليات العسكرية، في أشد صور حرب العدوان بشاعة، استهدفت إخماد نداء الحرية واقتلاع الناس من حياتهم وأرضهم في آن واحد. فكانت عملاً أدبياً صور و نقل لحظات فاصلة في التاريخ والجغرافيا، بين السوريين والطغمة التي حكمتهم بقوة القمع منذ نصف قرن. ماحدث في باب عمرو فتح الجراح السورية على عمقها وكشف كل شئ، فاستعرّت جمرة الثورة وتأصلت، على الرغم من فداحة التضحيات والآلام. في "عائد إلى حلب" يسرد صوراً جديدة، لما آلت إليه الحياة السورية، في ظل الانتقال إلى حرب مفتوحة، تدك الأحياء والمدن، وتسيطر فيه المعارضة المسلحة على المناطق التي تخرج عن سيطرة النظام. حلب المحطة الثانية في رحلة العبور والعودة لانجاز فيلم وثائقي، يلتقط فيها الكثير من المؤشرات التي يوردها بكل شفافية، مايراه وما يقصه عليه الضحايا : ضحايا من ؟ النظام والجماعات المتشددة التي أقامت المحاكم الميدانية، والمعتقلات والمعسكرات في كل مكان! حكايات الاختطاف والملاحقة، له وللصحفي نيكولاس، التعذيب الذي يمعن فيه النظام حتى القتل والإذابة بالأسيد. تتداخل الأحداث بين أطراف الحرب، التي تحول كثيرٌ من ملامحها لما كان بين المعارضة والنظام، إلى أطراف أعملت التنكيل والإقصاء بنشطاء الثورة، وانشغلت بهم. في الرواية يتقدم السلاح على كل شيء، قعقته وتشدد حامليه، لا تبقي أرضية لأي حوار ممكن، أو درب يمكن سلوكه بعيداً عن سطوتهم. هنا يقدم الصورة جليّة دون رتوش النص الأدبي وموارباته وإيحاءاته. يتوج مكسور ثلاثيته بـ "طريق الآلام"، العنوان يشير بوضوح مرّ لما عنيت الرواية بطرحه وتتناوله، عبر نص أدبي، ينهل من عذابات السوريين، بعد سنوات من انتفاضهتم ضد القمع والظلم، دون أن ينقطع السرد عما كان عليه في روايتيه "أيام في بابا عمرو"، و"عائد إلى حلب"، ففيهما بدأ الراوي سيرة العودة الى بلد اكتنفت حياته الأوجاع: الموت والعذابات التي يقود إليها النزوح والاعتقال والحرب المفتوحة على آخرها، بين النظام والمعارضة ..وغيرها، مما يلي تناوله في طريق الآلام. الطريق الذي أخذ يقود السوريين الى المقامرة بالحياة من أجلها، هرباً من البراميل المتفجرة ومن الاعتقالات، ومن داعش واخواتها. يتتبع الكاتب طريق الخروج من جحيم الأسد، ثم لاحقاً جحيم الجماعات المسلحة التي استهدفت شرائح السوريين الذين لاترى فيهم - من عصبتها - منقادون إليها. وهكذا، يشير مكسور إلى ما شاب الثورة السورية من فساد، واستبدال ديكتاتورية النظام بأخرى خرجت من رحم الثورة وطوت أشرعتها. في كل فصل ثمة ملمح وحكاية جديدة تشير، إلى منعطف أو مؤشر في حياة السوريين، في برزخ الثورة والحرب، وفي كل سرد يطرح السؤال المحوري في القص نفسه بإلحاحٍ، دون انتظار الإجابة: ماهي حكمتك يارب؟! وطن يضيع، حيث المقابر، والمعتقلات، والموت الذي ينشره النظام، والمنقلبون على الثورة، والبحث عن أوطان بديلة. فـ " الحرب الطويلة التي هزّت كل شئ، وقتلت الجمال الذي كان في تلك العيون البنية التي انتميتَ لها طيلة سنواتك، في مكان يسمى الوطن ". غير أن السارد لا يغفل اكتشاف طعم "القُبلة في طريق الآلام". كما أن ضلوعة ظلت خفاقة بالهوى وأشجان الحب، وملامح الجنس في مشاهد متناثرة في النص الروائي، في مدن مختلفة، حيث حطت روح الراوي أثقالها كي تستريح ولو قليلاً. في "طريق الآلام" ثلاثة محاور أساسية عني بها الكاتب، واشتق من قسوة المعاناة وشدة وطأتها، وتنوع وغزارة أحداثها، تسمية الرواية: - الثورة والنظام والحرب، وفيه تبرز جرائم النظام ووحشيته في مواجهة الثورة، بمختلف الوسائل، ناشراً الموت، مبثوثاً في مكان ودون تمييز. مستشهداً بما يحدث في المعتقلات من اغتصاب، وتعذيب يصل حدّ القتل العمد. كما يحيل إلى أنها الحرب التي تطحن كل شئ، ولم تكن البتة خيار السوريين: "هذه الحرب جاءت مصادفة، لم نكن نقصدها". ولكنها "أعادت انتاج كل شيء". - استغلال الدين وممارسات الجماعات المتشددة، وفي هذه المسألة يدلل عبر أحداث واضحة ومحددة، لجوء الجماعات المسلحة لاستخدام الدين، في إخضاع السوريين لمشيئته، بكل مافيها من انحرافات ومساوئ، وتعدٍّ على قيم الإسلام وحقوق المجتمع. مثل اقتلاع القبور، ومداهمة العرس، وبيع السوريات والمتاجرة بهن، وماتفعله داعش بالناس، وتكفيرهم. وإكراههم على المبايعة أو القتل كما في حادثة طاهر آغا. - المحور الثالث يتصل بالهجرة والرحيل الذي يقارب المجهول. والرواية التي تحفل بخروج السوريين من بيوتهم وحياتهم، تحفل أيضاً بفرارهم من وطن يحرقه الطغاة، يغذون رحلتهم بركوب الموت، الذي يستقوون به عليه.. ويمضون في رحلة غامضة تبدأ بعبور الحدود وتمر بالمساومات والاتجار بالبشر، في أوسع عمليه تهجير وتهريب منظم عرفتها البشرية. فقد أضحت سوريا "تنزف شعبها العابر إلى اللامكان" . يتناول مكسور المعاناة المريرة للسوريين الذين يبحثون عن جواز سفر، عن درب يحملهم خلف الغيوم، حكايات التيه ومواجهة الموت غرقاً، ويعود بنا المؤلف إلى مفصل مهم في ثلاثيته: هو الشاهد الرواي الذي يخطئه الموت، في كل مرة يتواجهان فيها.. ينجو كي يروي: "لقد أخطأني الموت مرة أخرى في طريق الآلام" ! تستحق الثورة السورية وهي تدخل عامها الخامس، أن تكون حاضرة بقوة في مجال الابداع الأدبي والفني، وقد تراكمت تجارب الكتابة، مع تسارع الأحداث، وتصاعد أعداد الشهداء وضحايا المجازر، والغرقى في البحار..وتدفقت الدماء منسكبة فوق تراب البلاد التي هرب نصف شعبها من الموت..تستحق أن توّثق بأعمال أدبية وفنية ترقى إلى مستوى الحدث، وأن تأخذ الثقافة - بوصفها عامل تغيير- مجالها الحيوي، في التطلع الى المستقبل. ______________ - كاتب سوري

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم