بأسلوب سلس ولغة مكثفة وتعدد في الأصوات، سردت الروائية البريطانية بولا هوكينز روايتها المشوقة "فتاة القطار"، ترجمة: الحارث النبهان. جاءت الرواية بتقنية اليوميات في وصف أحداثها واستطاعت أن تجسّد لنا شخصيات من عمق الواقع حول ثلاث نساء تلتقي مصائرهن، ثلاث نساء هن ريتشل وميغان وآنّا، لوهلة يعتقد القارئ أن لكل منهما حياة خاصة لا تشبه حياة الأخرى، لكن في نهاية الحكاية سيقف القارئ على حقيقة أن الحياة دوامة صغيرة تخضّ مصائر الآخرين لا يجمعهم شيء سوى المكان نفسه.

ريتشل، المرأة المضطربة، مدمنة الشراب، التي أصبحت بعد إدمانها سمينة، بشعة، هكذا كانت تشعر أو هكذا أشعرها زوجها السابق توم، بل أوهمها أن ذاكرتها لا تصلح لشيء، فهي تنسى دائمًا ما يحدث لها بعد جرعات مضاعفة من الشراب، هي التي كانت تحيا حياة طيبة كهذا تخالها لوهلة مع توم، لكن فشلها في إنجاب طفل أنهك روحها المتعبة جراء إدمانها للشراب كوسيلة للنسيان، وربما للهروب من واقع بائس، لكنها تظل شخصية قريبة من روح القارئ، شخصية يتمنى القارئ لو بإمكانه أن يخفف عنها عبء ما تمر به من أوقات عصيبة.

بينما زوجها المدعو توم يخونها أثناء زواجهما مع امرأة أخرى، فيتزوجها وينجب منها طفلة، هذه المرأة هي آنّا التي يغبطها القارئ في البدء على حياتها الطيبة مع توم، بل تغبط هي نفسها على حياة ما كانت ستحلم بها في ظل زوج يحبها، هي زوجة وأم سعيدة، ولا تكاد الابتسامة تفارق محياها. ولم يكن ينكّد عليها حياتها سوى ريتشل الزوجة السابقة لزوجها الذي وقعت في غرامه حين كان مرتبطًا بزوجته وكان هذا الشعور يعجبها، شعور خطف زوج امرأة أخرى كان يبهجها ويرضي غرورها، ربما من هنا تكون شخصية لا يرتاح لها القارئ، هذا القارئ نفسه الذي سيشفق عليها في نهاية الرواية، نهاية تليق بامرأة على شاكلتها!

ريتشل التي رغم اضطرابها ترى كل شيء، ترى تفاصيل حياة غيرها في البلدة التي عاشتها مع زوجها السابق، كان قلبها معلقًا حيث تركت بيتها وزوجها، حيث أجبرت على اقتلاع جذورها لكن قلبها ظل عصّيًا وكذلك ذاكرتها، هذه المرأة التي ظلت كل يوم تستقل القطار الذي يمر على بلدتها، على بيتها، وبيت الجيران، التي تكون أشبه بمتلصصة مثابرة تمارس فعلها يوميًا في مقعدها من القطار دون كلل وبعزم مدهش رغم ما يخلّفه فعلها هذا من مرارات كثيفة في روحها المعذبة التي تجتر الذكريات حين يعبر القطار طريق بيتها السابق مع زوجها كما لو أنه بعجلاته يمر عليها هي لا بيتها!

حين كانت في تلكم اللحظات نفسها تحدق بفضول إلى بيت تشغله امرأة شابة مع زوجها الوسيم وكان هذا التلصص الخفي يبهجها، يريحها نفسيًا، يجعلها تستعيد حياتها المسلوبة، حتى أنها اخترعت أسماء لهما، كانت تدعوهما جيس وجيسون، وكانت تغبطهما، تغبط جيس على حياتها اللذيذة في ظل زوجها المحب، لكن ثقبًا حادًا كان يخترقها كلما عبر القطار منزلها السابق، حيث سُرقت حياتها وانهارت، هذه المراقبة المضنية، اللاواعية، التي تخفي خلفها مشاعر مضطربة جعلها تكتشف جريمة بشعة، جريمة غريبة، لم تكن متوقعة مطلقًا، جريمة استهدفت المرأة التي كانت تغبطها بشدة على حياتها ميغان مع زوجها سكوت اللذين أطلقت عليهما جيس وجيسون، تنقلب حياتهما حين تختفي زوجته جيس، أو ميغان من حديقة المنزل، تختفي من المشهد كليًا، من مشهد القطار حيث كانت ريتشل تتلصص عليهما.

سيرى القارئ أن هؤلاء النسوة الثلاث كان عقدتهن الأمومة، كانت غايتهن أن يكّن زوجات صالحات وأمهات صالحات كذلك، لقد وئدت أمومة ريتشل قبل أن تبدأ، وهذا ما قضى على حياتها كزوجة لرجل تحبه، الرجل نفسه الذي تكتشف كم أنه كان غريبا عنها، الرجل الذي قضت أكاذيبه عليه، هو نفسه الذي منح الأمومة لآنا لكنه سلبها من ميغان حين قتلها وطفلها كي لا تفضح أكاذيبه وعلاقته السرية بها.

ميغان التي أرادت أن تستعيد الطفلة التي ماتت بين يديها في لحظة إغفاءة في زمن ماضيها وظلت بعدها ليس أمومتها فحسب بل حياتها كلها مهددة، مطاردة، مؤرقة، ومعتمة أيضًا، هذه المرأة التي يشعر القارئ بارتباك أمامها على طول الرواية!

كانت ستكون حياة هؤلاء النسوة أفضل حالًا لو لم يقعن في شراك الرجل نفسه توم الذي كان زوجًصا سابقًا لريتش وزوج آنا ومغويًا لميغان، توم الرجل الذي مثّل أدواره بإتقان ككاذب وخائن وقاتل في النهاية.

هذه الرواية تظهر مدى فجاجة بعض العلاقات التي تخفي في باطنها كثيرًا من الأسرار، التي تهرب من ماضيها وتحاول ترميمه بأكاذيب مقنعة، بأوهام مختلفة علّها تحدث فرقًا، علّها تُمكّن الروح من الهرب المؤقت، لكن الروح تظل معذبة ولا تستكين عذاباتها حتى تسكب ما في قاعها المعتم.

رواية هي أشبه بقطار يمضي في المتاهة نفسها، نحاول خلالها مقاومة الألم ونسيانه، لكن كل شيء يرتدّ على صاحبه، في مثل هذه الظروف المضطربة دائمًا يبحث الإنسان عن شبيهه، عن من خاض حياة تماثل تجربته القاسية لذا ريتشل حين كانت ترى آنا تعبر الدروب التي مشتها من قبل في منزلها، حياتها مع زوجها مقارنة إياها مع حياة الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث التي دفعت باهضًا ثمن حبها ووفائها لزوجها تيد هيوز الذي خانها ببساطة مع امرأة أخرى، المرأة الأخرى آسيا التي لاقت مصير سيلفيا نفسه وخاضت برعب الوساوس نفسها حتى انتحرت وبالطريقة نفسها: "أفكر في تيد هيوز عندما جعل آسيا ويفيل تنتقل إلى البيت الذي عاش فيه مع سيلفيا كلاف قبل ذلك، تذكرت كيف كانت ترتدي ثياب سيلفيا وكيف كانت تمشط شعرها بالفرشاة نفسها، أود أن أتصل بآنا وأذكرها بأن رأس آسيا انتهى إلى الفرن مثلما حدث لرأس سيلفيا أيضًا".

لقد دفعت آنّا ثمن تهوّرها وكذلك ميغان، وحدها ريتشل التي كانت أكثرهن وجعًا وإحساسًا بالذنب على طول الرواية، وحدها من حررت روحها من براثن حياة كئيبة، فتاة القطار التي لم تعد وحيدة، لقد كافأتها الحياة بظفر من نوع آخر حين تصالحت كليًّا مع نفسها، وما عادت الحياة بالنسبة لها مجرد رجل خانها وتركها وحدها تتخبط مع روحها المضطربة بل امرأة تتوق لحياة أفضل، امرأة حياتها كقطار لا يستكين، يهدر بحيوات متجددة.

 كاتبة وناقدة من عُمان

المصدر: صوت الترا

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم