عانى العراق ومازال يعاني من آثار الحروب المتتالية التي خلقت في مدنه نوعا من الانكسار العميق بدأ بالفوضى والإرهاب والعنف وهي ظواهر سيطرت على الشوارع ودخلت كل نفوس العراقيين لتتآكل المدينة وسكانها معا.

هل يمكن القول بأن رواية "سيدات زحل" للروائية لطفية الدليمي رواية مدينة؟ وأن أبطالها مدنيون في وعيهم القلق، وفي نزوعهم الطبقي وفي تمثلاتهم الاجتماعية والنفسية؟ هذه الأسئلة الاستفزازية تضعنا أمام توصيف افتراضي للمكان، ولعلائق منظومته السردية مع شخصياته، ومع طبائع زمن المدينة السياسي، إذ تتحول هوية المكان إلى بنية تبئيرية للصراع، عبر تمثلات تاريخية وواقعية، وعبر استدعاء ميثولوجي للكواكب وطوالعها وطلاسمها، مثلما تستدعي المدينة بالمعنى الريكوري حضورها كموجّه ميثوسردي للأحداث، وإلى إسباغ سمات معينة على الشخصيات وصراعاتها وأحلامها، وإلى ترسيم علاقة محددة بالنساء/ السيدات بوصفهن ضحايا لموت المدينة.

العلاقة ما بين النساء والمدينة هي الجوهر الدرامي لسردية الاستفزاز، ولقيام فكرة الصراع الذي تقترحه الدليمي؛ وقائع ويوميات وتاريخا معروفا في الذاكرة العراقية، إذ تتبدى من خلاله محنة الشخصية العراقية في المكان/ المدينة المشوهة ما قبل 2003 وما بعدها، وما تتعرض له زوجة العم الشيخ قيدار من خطف على يد أحد مسؤولي السلطة العراقية قبل 2003 واعتقاله أيضا بتهمة العمل السياسي المحظور هو عتبة الاستفزاز الأولى التي تقود إلى سلسلة من الاستفزازات، بدءا من تعرض حياة البابلي -الشخصية الرئيسية- إلى الفقد والمواجهات المرعبة في المدينة المحاربة والمستلبة بعد عام 2003 في المدينة حيث اختفاء قيدار، واختطاف ابن الأخ هاني، وبروز المافيات والعصابات والجماعات الإرهابية، وهو ما يعني الانكسار الوجودي، وانكسار مفهوم المدينة الحمائية، ودخولها رمزيا إلى دائرة النحس الميثولوجي عبر ما يحمله كوكب زحل من نذير شؤم للفقدان والغياب والموت.

يعمد المتن الروائي إلى خلق حكاية تقوم على فكرة موت المكان/ المدينة، وموت شخصياتها، عبر سلسلة من الثيمات والصراعات وحالات الفقدان التي تتماهي مع أحداث معينة، لكن المبنى الروائي يضع تلك الثيمات في سياق وظائف مركبة تبدأ من اعتماد وظيفة بنية الميتاسرد لتوتير الأحداث وإيجاد وعي قصدي بها من جانب، وللكشف عن علائق الشخصيات الروائية المضطربة بتاريخ المدينة وبتحولاتها العاصفة، وبسرائرها الخبيئة.

بنية الفقد هي معادل تعبيري ورمزي لبنية الرعب، وحتى شفرة “نحس زحل” هي توكيد لفعل ذلك الرعب الذي تستعيد الروائية عبره العديد من مظاهر تاريخ بغداد الحزين، وتعالق هذه الاستعادة بالهوية المضادة للمدينة المتخيلة التي تعشقها كثيرا، إذ هي ذات المدينة التي عاشت الاحتلال الإنكليزي، واحتلالات هولاكو وتيمورلنك.

تهجس رواية "سيدات زحل" بإدانة الحرب والسلطة، إذ تمثل تلك السلطة المرعبة خطاب الإخصاء الفكري والإنساني، مثلما تمثل الحرب صورة رمزية للإخصاء الوجودي، ولعل عملية الإخصاء الحقيقي التي تعرّض لها طليق حياة البابلي هو المعادل الموضوعي لاغتصاب هالة من قبل جنود الاحتلال، ولوقوع “النساء المستلبات” في الرواية بدائرة النحس، وكأن الرواية تضعنا أمام قدرية الفقدان والشؤم، والتي أسبغت على جميع شخصيات الرواية نوعا من الاغتراب العميق، اغتراب الوجود والمعنى والهوية والذات، رغم ما توحي به خفية بالحثّ على مواصلة الحياة.

بنية المفارقة واحدة من أكثر التقنيات السردية التي اعتمدتها الدليمي في روايتها، إذ تحولت هذه البنية إلى عتبة لاكتشاف المتضادات الروائية، على مستوى مصائر الشخصيات، وعلى مستوى تقاطع الأحداث، فتحولت إلى حافز للكشف عن الحمولات النسقية فيها، بدءا من نسقية الفقد الذي عاشت رعبه الشخصيات، وانتهاء بنسقية القبح الذي لوث حياتها ومصائرها.

ويمكن وضع وظائفية الميتاسرد الذي اعتمدته الروائية في سياق بنية المفارقة، والتي تضع ثيمة المخطوطة وثيمة الوعي القصدي بها، أمام مساحة سردية لتوزيع شخصياتها وفق ما تفترضه صيغة تشكيل الأحداث، وإمكانية وضع توزيع وحدات الزمن الخارجي على ضوء حاجة الزمن النفسي، والزمن التاريخي، وهما زمنان افتراضيان لمتطلبات السرد وتقنياته اللازمة لبناء المشهد وتحريك الأحداث.

قدمت لنا لطفية في روايتها “سيدات زحل” قراءة صادمة لما عاشه العراق السياسي والثقافي، إذ تحمل هذه القراءة هواجس المرأة المثقفة من خلال حمولات شخصيتها الرئيسية، وهي تجوس في محنة المدينة المعطوبة برعب السلطة والحروب والاحتلال، ومحنة الإنسان، والمرأة بشكل خاص، ليس لأنها المرأة الوحيدة والمستلبة والفاقدة بقدر ما هي المقابل الرمزي لموت المكان/ المدينة، وتشوّه كل الشخصيات خارجها، وحتى بروز ظاهرة المنفى التي تتحول إلى موت آخر.

عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم