"شهوة الجدار"، هكذا أراد الكاتب السوري ايهاب عبد ربه عنوان روايته الجديدة الصادرة عن دار الفارابي في بيروت 2015. فمنذ البداية يستوقفك العنوان، إذ كيف لجدار أن يشتهي؟ وكيف له أن يمارس رغباته وشهواته؟ وكأنما أراد من العنوان أن يخبرنا أن الجدران أكثر إحساساً من البشر. إنّ الروائي الجيد لا يفتعل حكاية حب دون حاجته للحكاية، ولا يستدعي قضايا وطنية كبرى كالقضية السورية في نفس عاطفي لا يستوجب احتشاداً بالقضايا الكبرى. الرواية التي ابتدأت كمشهد مسرحي لفتاة ثورية اتّهموها بالجنون تتحدث إلى طبيبها المعالج بحديث يزخر بالانفعالات والتعابير الجسدية المسرحية التي كانت أقرب الى فن المسرح منه إلى الرواية واستطاع الكاتب أن يدمج بين المسرح والرواية في أسلوب جديد تماماً في الرواية العربية. الحبكة الروائية المثيرة للجدل والتي تشعر قارئها بالتيه كانت تسير في محورين أولهما "رود" الفتاة الثورية التي خرجت مع جموع من ثاروا، وسقطت في حب ثائر، وعاشت الحب في زمن الثورة بكل تفاصيله، ثم تجد نفسها وحيدة من دون حبيب وكأنما بترها. لتفاجأ به فيما بعد على شاشات التلفزة وقد أصبح من "مرتزقة الثورة" في الوقت الذي قتل فيه أصدقاؤه واحداً تلو الآخر دفاعاً عن قضية خذلها هو. المحور الثاني للرواية تدور حول حاتم؛ الشاب التونسي الطموح الذي قصد فرنسا على أنها جنة الخلد، وعلى أنه سيكون ذئباً، فإذا بباريس ترميه في أحضان العاهرات ومروجي المخدرات، واذا بالذئب يصبح كبشا لا أكثر.. ليصل الى ذروة ألمه عندما يجد أن حتى أبواب المسجد كانت موصدة بوجهه، فاذا بها تفتح ليتحول إلى رجل سلفي قرر أن ينصر الإسلام والمسلمين بذهابه "للجهاد المقدس" في سوريا. حبيبته القديمة تبدأ بالبحث عنه متحدية ظروف سوريا الأمنية متجاوزة الجثث المتعفنة، وأمراء الحرب، وجميع المصلوبين، لتصل في نهاية المطاف إلى رجل كان يذبح وكانت لكنته تونسية ويشعرك الكاتب هنا بأن نهاية حاتم كانت الموت ذبحاً. رود تعتقل فيما بعد وتعذب، لكنها تجد ثقباً بالحائط تتشارك وجارها الحب في صورة أبدع الكاتب في وصفها على أنهما ليس في معتقل بل في جنة خلد، وأنهما آدم وحواء يمارسان الحب من خلف الجدران، وقد أجاد الكاتب في وصف علاقتهما عندما قال على لسان السجين: "بينما الله يرسلنا في أقدارنا نتعثر بالحب، الحب صخرة الحياة في وادي الموت، لأنفاسك وقع الجنة والفردوس، نهر الكوثر منك يبللني كشهد يشبه ريقك الذي أتخيل، وأتحمم بنور رائحتك، وطن أنت عندما خسرت كل شيء، وحلم أنت عندما أصبحت الكوابيس استيقاظي الدائم ،يتسرب صوتك طوق نجاة في لحظات انتظاري لإعدامي، في كل الأوقات ناجيت الله كثيرا حتى أرسلك لربما كنت أنانيا في هذا العمل ولكن ماذا أفعل؟ كان يجب أن تسجني لأعيش أنا".. تذهب بنا الرواية أخيراً الى المؤتمرات الكاذبة والاجتماعات السخيفة ليتركنا الكاتب في حيرة من أمرنا عندما يشعرنا أن الشخصيات كانت وهماً وترك النهايات مفتوحة أمام جميع خيالاتنا. لكنه يعود ليخبرنا أن الكارثة الكبرى هو أن كل ما قيل وكتب في التقارير أقل بكثير مما حدث وما يحدث وما سيحدث حتى ولو كان خيالياً. أجاد الكاتب في خلق أبطال الرواية للحد الذي يجعلك تتعاطف مع حاتم، ذلك أنّ حاتماً هو كل شاب ضاقت عليه الأرض بما رحبت. الحد الذي يدفع القارئ للتعاطف مع رود الفتاة الجريئة الثائرة القوية التي على الرغم من انكسار قلبها أكملت مسيرها حتى النهاية.. وصف الروائي الأشخاص الثانويين في الرواية كضباط الأمن بدقة متناهية، من رائحة تبغهم المقرفة إلى رائحة عطرهم المقززة وأظافرهم السوداء وعيشتهم الذليلة الفقيرة فداءً للقائد. وتظهر جرأة الكاتب عندما تطرق للعلاقة الجسدية التي جمعت رود بممرضتها سماهر في المصح، هذا الجانب المستتر في المجتمع والذي لا يجرؤ أحد الاقتراب عليه من باب الخوف من اكتشاف عقدنا. رواية متكاملة على الرغم من تطرقها العنيف لما يجري في سوريا لكنه غيض من فيض..

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم