ترسم الكاتبة ليلى الأطرش كلمات روايتها «ترانيم الغواية»، (منشورات ضفاف) بشحنات بلاغية وتصوير شاعري، وتنسق معانيها مازجة الوصف بالسرد، وغائصة في البعد النفسي للغة من خلال الأبعاد المشحونة بالمعاناة النفسية: «خيوط الشمس غزلت دفء النهار، أضاءت ذهب الصخرة، وتلة مغروسة بشواهد الراحلين، تحتمي بسور شاخ التاريخ فوق حجارته». تبدو اللغة لدى ليلى الأطرش وكأنها عين تلتقط صوراً تصف المشهد التاريخي البعيد: «من رحم الماضي تولد رؤى وظلال أشخاص، وأسئلة تقيّد الخيال، تجهض كل تصور للآتي... وزوابع القلق زئير»، وتعمل على إسقاط الأقنعة أمام الذاكرة، التي تسللت إليها عبر ذكريات الآخرين وتاريخهم: «بجلال يفرض التاريخ حضوره الطاغي على مدن ولدت معه... لآثاره سطوة إنطاق حجارة الزمن، فتروي قصص من سطّروا حكاياتها».

اختارت الكاتبة من ذاكرة القدس وتاريخها الذي حُفر في ذاكرة كل من سكنها موضوع فيلمها السينمائي الذي تتهيأ لتصويره... ذاكرة العقل، وذاكرة الصور، وذاكرة المُذكرات والملفات والوثائق: «تتشوش الذاكرة بعد مشاهدة صور قديمة... ولأي سبب اختارت الذاكرة حادثة أو شخصاً دون سواه؟ أم أن الذاكرة والصورة في اختلاط محير؟ وهل كان العقل ليستعيد تفاصيل لحظات وأحداث معينة إن لم تسجلها الصور؟». التقطت الكاتبة صوراً جعلت القارئ يتابع دقائق تاريخ القدس وحركة من عاش فيها ومدى تأثيرها عليه: «مصلوب بحيرته ذاك المولود في مدينة منذورة لله... ظاهرها قدسي... معلق على الحدّ بين طهارة الحجر ونوازع البشر».

مهدت الكاتبة لقصتها باستهلال تاريخي تناولت فيه سيرة سالم أبو نجمة وضياع المرج، فضلاً عن الوعد الذي قطعه لزوجته مريم الضاوي، وأولاده إبراهيم وحبيب وميلادة عند سفره، أن يعمل ليلاً نهاراً كي يؤمّن لهم حياة طيبة ويلحقوا به إلى التشيلي. إلا أنه لم يفِ بوعده، لأن الكوليرا سبقته إلى زوجته، فكان الموت أسرع من الوعد، فجرفته بلاد الاغتراب إلى عشق محرم وشهوة لا تنطفئ! ذهبت الراوية إلى مدينة القدس كي تصوّر فيلماً سينمائياً... معوّلة على ذاكرة العمّة ميلادة، التي قيل أنها تعاني من بدايات مرض الألزهايمر: «والعمة منذ زمان المخاضات الكبرى، والتحولات العاصفة، وُلدت تخلع عهداً وتعيش آخر، فتشابكت في أيامها خطوط السياسة والدين». ووجود العمة في القدس هو الذي منح الراوية تصريحاً لزيارتها، فحققت حلمها: «فوق غمامة من حلم سكن دقائقي والساعات، أنتظر زيارة من قالوا إن حاضرها ينساب إلى ظلمة نسيانها».

من قلب الذاكرة - ذاكرة الروايات التي كانت تسمعها - سردت الراوية حكاية زواج ميلادة من ابن خالها عوض، الذي مات باكراً، وبدل أن تحمل طفله، حملت لقب أرملة! ثم مرت على علاقة الحب المحرمة التي نشأت بين العمة الأرملة ميلادة والخوري الأرمل متري، الذي نُعت بالكاهن الفاسق، وذلك لأن قوانين الكنيسة لا تجيز زواج كاهن أرمل. إلا أنه جرّاء خوف الكهنة من فضيحة تطاول سمعتهم اقترحوا عليه أن يتزوج حبيبته بالسر، فعبّر عن ذلك في رسالته التي تركها لابنه قائلاً: «بررت بقسمي فلاكتنا الألسن...» كما كانت العمة ميلادة في كل مرة تقترح على الراوية قصة جديدة كي تصورها في فيلمها، وفي كل قصة - بنت - والبنت في كل مرة هي ميلادة نفسها. ومن ذكريات ميلادة، تسللت الراوية إلى أوراق الخوري متري، ووضعت يدها على ملفات الذاكرة القابعة في أدراج مكتبة إبراهيم الأخ الأكبر لميلادة وحصلت على فكرة فيلمها: «من رسالة في الملف الأول توالت الصور والأفكار... جزء من الفيلم سيروي اعتداء البشر على التاريخ في مدينة السماء»، ثم فتحت ملفاً بختم أحمر، وقرأت التقرير المكتوب بخط اليد من شخصية عربية باسم مشطوب بالحبر: «ونؤكد لكم أن قادة جيش الإنقاذ العربي ودوله غير راغبين في مواجهة مسلحة مع اليهود، فهم يدركون أنها معارك غير متكافئة، لكنهم يُخفون هذا عن الجنود والشعوب لئلا يُتهموا بالخيانة». وهذه الجزئية من التقرير اختزلت تاريخاً كاملاً في بضع كلمات. ثم اطّلعت على الوثيقة التي تظهر كيف انتقلت آلاف الدونمات من بدو وقرويين غافلين عبر السماسرة والمستثمرين إلى اليهود.

سردت الكاتبة التاريخ بحنكة وثقة لغوية، بحيث لا يشعر القارئ بأنه يقرأ تاريخاً، بل يحيا اللحظة ويسبكها في ذهنه، وكأنه يقف على شرفته العالية ويراقبه يتحرك أمامه، فعادت للعام 1908. ومرت على حروب الأتراك والفرنج، والأتراك والعرب، والعرب واليهود، ومسلمين مع مسلمين، ونصارى مع نصارى، ومسلمين مع نصارى. كما حرصت الكاتبة على توثيق مصادر المعلومات التاريخية في الهوامش. سجلت الكاتبة وصفاً إنسانياً لمدينة القدس، على لسان الراوية، نقلاً عن ميلادة: «تعطي الغرباء مكاناً فيها لكنها لا تحضنهم، صدرها لا يلم وحشة الغريب، حضنها لا يعرف الدفء، دائماً تضع مسافة بين أهلها والآخرين»، كما أشارت إلى الدور السلبي الذي لعبه الخلاف بين العائلات المقدسية، مما أضرّ بالبلاد وقضاياها ومصيرها. سردت الراوية، التي بقيت بدون اسم، بضمير المتكلم بالتناوب مع العمة ميلادة. أما الذاكرة فسردتها بضمير الغائب. ودفع ضمير المتكلم الراوية إلى التأمل، فارتفع مستوى الصورة الفنية في ألفاظها وعباراتها. حللت الكاتبة نفسية ميلادة، وتعرفت على تقلباتها، وحددت طاقاتها، فارتبطت بالحدث وحافظت على أبعادها الوجودية وصفاتها الباطنية. وبدت ميلادة كأنها شخصية واقعية انصهرت في المكان الذي تعيش فيه، وخطّ عليها الزمان آثاره. ومن مكانها وزمانها اكتسبت صفاتها وسلوكها ونمط تفكيرها، وكي تكمل الكاتبة نصها الروائي، حثت ميلادة على البوح بهمومها، ففضت بكارة ذاكرتها، إلا أنها أخضعت الراوية لمزاج ميلادة الشخصي، فكانت الأخيرة حرّة تتحرك بإرادتها. وعلى الرغم من كل المعلومات التي حصلت عليها الراوية من ميلادة إلا أنها حافظت على غموضها حتى اللحظة الأخيرة من الرواية! أما الشخصيات المؤثرة في الرواية التي أتى وجودها من الذاكرة أو من الملفات أو الصور، فراقبتها مراقبة خارجية وأفادت من مشاهداتها وسجلتها. لم تحوِ الرواية حبكة روائية. أما عنصر التشويق فلم يأتِ من خلال الحدث بل من خلال جاذبية اللغة وحيويتها. وكان للمكان والزمان التأثير الأكبر في خلق الشخصية الواقعية وحركتها، فارتبط الوقت بالحوارات الداخلية والهواجس النفسية وزوايا الذات. أما بالنسبة إلى الحدث فانحصر بميلادة وسيرة حياتها، ورضخ لاستعداداتها العقلية، وسماتها المزاجية، ولكل من ارتبط بها، ومنها انطلقت إلى السرد التاريخي الوطني والإنساني، وتداعيات كل ذلك على الفرد والأشخاص، من خلال الأنا والآخر في الصراعات المباشرة والمضمرة. ولم تغفل الكاتبة إضاءة البعد العاطفي لميلادة المرأة من خلال قولها: «أي امرأة لن تعرف قيمة جمالها إن لم يحبها رجل... عينا الحبيب أصدق من أية امرأة». وفي الوقت نفسه غمزت إلى وضع المرأة الفلسطينية وارتباط مصيرها بالرجل: «دائماً... تدفع النساء ثمن خلافات الرجال ومشاكلهم». وأخيراً... أقتبس ما قالته الراوية في وصف ميلادة لوصف الكاتبة نفسها: «لمّاحة حكّاءة، رشيقة الأسلوب، خاصمت التكرار، كأنما رتبت أفكارها متوالية على رفوف خفيّة... لا تتزاحم ولا تختلط».

عن صحيفة الحياة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم