ما هي الشخصية الروائية؟ ما علاقتها بالنص الروائي؟ وهل لها جذور في تراثنا النقدي العربي؟ ما صلتها بالبلاغة؟ وما شأنها في الفكر النقدي الغربي؟ ألها موقعها الخاص في عالم اللسان؟ ما هو هذا الموقع؟ هذه الأسئلة، وأسئلة أخرى، يتصدى للإجابة عنها كتاب “الشخصية الروائية: مسبار الكشف والانطلاق”، الصادر عن دار نون برأس الخيمة، للكاتب والروائي السوري هيثم حسين، بأقسامه الستة.

إذا كانت القصيدة لحظة إشراق، والقصة القصيرة اقتناص الومضة والمفارقة، والمسرحية تتطلب مناخا مفتوحا، فإن الشخصية الروائية أكثر ما تحتاجه هو الجلوس يوميا وراء الطاولة لساعات متواصلة من أجل التفكير العميق ثم الكتابة، وهي تحتاج أيضا تحضيرا طويلا، وفضولا لمعرفة الأشياء: أسمائها ومواعيدها وتفاصيل التفاصيل عن دورها في الحياة. الشخصية الروائية مهما حاول الروائي تصورها لا تتشكل إلا بالكتابة.

الاسم العلامة

ينبه الكتاب إلى الاسم، العلامة التي يختارها الأهل للطفل، وتخضع لشتى التجارب المعيشة، فقد يطلق الاسم تيمنا، تفاؤلا، إحياء لاسم محبوب، حفاظا على نسب ما، إعجابا بالقدوة السياسية والعلمية والاجتماعية، إلخ.

وقد تنتشر لفترة ما أسماء، وتنقرض أسماء، دلالة على زمن اجتماعي وثقافي، بل وسياسي محدد، فاسم (جمال) -على سبيل المثال- في بلد كسوريا شمل قطاعا واسعا من مواليد 1958-1959، إبان الوحدة السورية المصرية، وما مثله جمال عبدالناصر من معنى، رمز دلالة في الوعي الاجتماعي والثقافي الشعبي. فعلامة الاعتباط اللغوية، تبدو صدفة على مستوى اللسان: لكنها الصدفة المشدودة إلى ضرورة الاجتماع والثقافة.

والروائي يخضع للشرط ذاته، وهو يبدع شخصياته الروائية، فهو يباطنها بسيكولوجيا، ويخارجها سوسيولوجيا، لتحقيق وحدة السيمياء الذهنية والثقافية للشخصية، وعن ذلك يقول حسين في بحثه “بعض أطوار الشخصية الروائية”: وقد تحاول الشخصية الروائية اختصار رسائل كبرى، كحال شخصية ياسين ظاهر عند الروائي البريطانيّ، السوداني الأصل جمال محجوب في روايته “السفر مع الجنّ”، حيث تظل العلاقة بين الشرق والغرب موضع اهتمامه، يكون التاريخ المشترك والحاضر المعيش والمستقبل المنشود روابط متينة في هذه العلاقة الشائكة المتشابكة، يقدّم جمال محجوب سيرة مهاجر في أوروبا، يرتحل بين جنباتها، ويسيح فيها، يستكشف معه جماليات القارة وأسرارها.

كما حاور هيثم حسين فكرة مجددة عنوانها “التداخل بين شخصية الروائي وشخصياته الروائية – مقاربات في السير والمذكّرات”، قبل أن يتوجه إلى مثقفين فرادى، مستعيدا صورة السيرة الذاتية التي تنقد وتقترح وتحرّض وتحلم بتحويل الشخصية السيرية إلى ثقافة مجتمعية. فلا يتم التعرف بسرعة على السيرة الذاتية بخلاف مجموعة من الأجناس الأدبية، من خلال علامات شكلية معينة. وبذلك تكون أسئلة القارئ “من يتكلم؟”، “هل أنا أمام خطاب صادق؟”، “كيف التأكد من ذلك؟” أسئلة مشروعة.

واتكاء على هذه الأسئلة يقول هيثم حسين: تحظى مذكّرات المشاهير باهتمام القرّاء، لأنّ هناك فضولا لاكتشاف جوانب خفية، ربما يبوح بها وعنها كاتب المذكرات، وعسى أن يساهم ما سيكشف النقاب عنه في فهم بعض الأحداث والحقب بطريقة مختلفة، أو عساها تساهم في تبديد الشكوك حيال أمور وقضايا بعينها، مع أنّها قد تزيد الشكّ وتفصّله، ولا سيما حين يتحلّى القارئ بحسّ التقصّي والنبش بين السطور، للبحث عن الدفين والمخبوء، وما لا يتمّ التصريح به أو الكشف عنه.

ويشير المؤلف في بحث آخر إلى “مواءمة عوالم الشخصية” انطلاقا من أي تاريخ يمكن أن نبدأ الحديث عن السيرة الذاتية في ما يخص تاريخ ميلادها؟ يرى فيليب لوجان أن الأصل هو جان جاك روسو (“الاعترافات” هو النص المؤسس)، ويعارضه في ذلك جورج غو سدورف الذي يرى أن الكتابة عن الذات هي حقيقة لا زمنية. هي، بالنسبة إليه، قد قطعت قرونا لأنها حاجة أبدية للإنسان “إن إسناد قطيعة الاستمرار في تقاليد كتابـات الآنـاء إلى روسو، هو خطأ تاريخي مبني على نقص في المعارف.

مرونة الشخصية

على عكس هذا المنظور الكلاسيكي يكتب هيثم حسين: الروائية البريطانية دوريس ليسّينغ الفائزة بجائزة نوبل للآداب سنة 2007، والمولودة في كرمنشاه في إيران (1919) لوالدين بريطانيين، تقدم في روايتها “مذكرات من نجا” بعثرة الشخصية عبر تقديم صور من الدمار الذي تخلّفه الصراعات المفجعة التي تستشري في بعض مناطق النزاع والتوتر والحرب.

تحرص ليسّينغ على المواءمة بين العالمين الداخلي والخارجيّ لشخصياتها، يكون كلّ عالم صدى للآخر وانعكاسا له، ويتكامل العالمان في ما بينهما للإبقاء على الأمل والتفاؤل في حياة الشخصيات، وذلك بالتزامن مع تقديم القبائح التي تتخلّل العالمين، والتي تقع الشخصيات، فريستها باعتبارها تضطر للاستمرار في مدينة تطوّقها الحروب، وتتفشى فيها العصابات التي تروّع الناس. ويكشف حسين في بحثه “مرونة الشخصية وتفعّلها المستمر.. التأثير والتأثر في الرواية”. ويتحدث عن ذلك: وقد يكون المتأثر منتجا للنصّ المؤثّر، ويكون بدوره مؤثّرا فعّالا في لاحقيه أو معاصريه، وربّما ينطبق مصطلح التناص على الحالة، مع فروقات واختلافات حين التناول والتداول. ويبالغ البعض بتوصيف أولئك الذين ينفون أيّ تأثّر من قبلهم بسابقيهم أو معاصريهم بالجمود والتحجّر اللذين يعبّران عن بلاده ولا سيما أن آفاق الأدب الإنسانية الرحبة توجب التداخل والتحالف والتواصل، ولا يمكن الجزم بأيّ قطيعة، مهما زعم الأديب من مزاعم انقطاعه عن الآخرين بغية إبراز نفسه الأول في ميدانه.

إن الشخصية الروائية، ربما هي الأكثر قدرة على تصوير الحياة من الواقع الخيالي نفسه، لنأخذ مسألة الإرهاب، وهي المسألة التي تملأ العالم اليوم وتشغله بالسلب والإيجاب. ألا يكفي، مثلا، مشهدان، وهما هنا، بين الافتراض والواقع لتصويره، أولهما: صورة مسلح يسحق بحذائه الثقيل رأس لعبة صغيرة على حجر.. والثاني، رجل يشق بسكين حادة بطيخة كبيرة أمام زوجته المرعوبة، ويترك السكين مغروسة في قلب البطيخة، ويسيل منها ماؤها الأحمر، وهو ينظر بقسوة نحو زوجته؟

يقول غارسيا ماركيز “لا بد من الفن لفهم الواقع، وذلك بعد أن زعم الواقعيون، “بأنه لا شيء يفوق الوصف”، ويؤكد هيثم حسين “إن الشخصية الروائية عالم من النور والعتمة معا، وهنا محاولة لإزاحة جانب من النقاب عنها”.

عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم