يستكشف الروائي السوداني البارّز عبدالعزيز بركة ساكن في روايته الجديدة ( سماهاني) -الصادرة عن دار مسكلياني 2017م - تاريخ وجغرافيا يتموقعان في زمن تقع أحداثه في التأريخ حصرياً. وتتوزع عبر خمسة وعشرين فصلاً ليخرج النص عن الحيز المكان والتأريخي والسردي بما استدعى التواجد في زمن شهد علاقات الرّق والاستعباد بين سادة وعبيد في جزيزة زنجبار في البر الأفريقي. والنص الروائي في مواجهته المستمرة للتأريخ لابد أن يتأرجح بين استدعاء التأريخ بما هو أحداث مُتراكمة في الحدث الزمني، وبين تأويل ُمخصَباً برؤية سردية لها تدابيرها المتصلة بقواعدها ككتابة نص ينقل التأريخ روياً سرديا Narrative على غير ما يُّؤلف في كتابة التاريخ Historiography. وللتأريخ تأويلاته السردية والفلسفية، أي فلسفة التأريخ حول تفسير أو فهم ما جرى ما أحداث ودلالاتها وما ترتب عليها من نتائج. وحيثما أستدعى تصنيف رواية ( سماهاني) كسرد ينطلق من محور زمني تاريخي؛ فقد يُبرَّر الإدعاء بأننا أمام نصٍّ سردي تاريخي ( رواية) تأريخية تحمل جدل التأريخ والمفارقة بين وقائع التأريخ وآليات النص الروائي في سياق معادلة طرح المؤرخ ورؤية الروائي. ويضعنا بركة أمام مشهد تاريخ بقراءة انثروبولوجية تبدو عوالمها غير مطروقة بما يفترض السؤال حول كيفية إعادة صياغة الخطاب الروائي تحت ظروف تأريخية مختلفة.

حيز السرد:

يتنقل بركة ساكن في رواية (سماهاني) إلى حيز هامشي آخر جرت أحداثه في وقت ما ومن ثَّم ترسخت آثاره ومفاهيمه مؤثرة بقوة في الذّاكرة والوجدان الإنسانيين؛ وأزمة ماحقِّة لم تلبث أن تعاود التجليِّ على مسار التأريخ البشري. وبِما أن السرد على قول الناقد تيري إيلغتون ليس تعبيراً أيدولوجياً محضاً عن طبقة ما ولكن منجزاً أيدولوجيا على نحو محدد؛ وإن تكن الايدولوجيا والتاريخ تُعدّان ضمن تقاطعات النص الروائي خاصة في الرواية المعاصرة. ثمة موقف يفصِّل بين الرواية وعالمها على نسق ما يحاكم الروائي في شخوصه أو يضعهم في سياق يقتضي موقفاً حادَّاً لايحتمل اللبْس، ومتى ما تقاصر السرد عن مقاومة التنازعات( الأصيلة، والمتوهمة) التي تبديها لحظة تأريخية ما في واقعٍ يقرأ في وحداته ومحدداته بتفسير بينيوي صارم لا يتحرج من تجاوز المفهوم البنيوي معنىً وتصورا إلتجاءاً إلى مفاهيم أو نظرية أخرى مهاجرة بتعبير إدوارد سعيد في كتابه الناقد والنص والعالم: حيث يتعالق النص بالفضاء السردي والجغرافيا والأدب. إِنَّ المشروع الروائيِّ للروائي السُّوداني بركة ساكن حيثما أصبح السرد مؤخراً مشروعاً في موازاة مشروعات أخرى بصورة الإستعارية، لايجب أن يؤخذ على حدَّه الأيدولوجي المسبق على ما يوحي به المشروع من اتصال متطابق من قضايا مبعثرة كثيراً ما تتعثر على متن السرد. والسِّرد الروائي على نحو من الدَّقة انعكاساً لواقع لا تلزمه ضرورة واقعيِّة الاتجاه ولكن صورة مختلفة الأبعاد مؤطرة بدوافعٍ متصارعة مُحتدَّة في علاقاتها مع الحاضر. وإذا أشكل الانتقال السردي حين تنقله بحثاً عن فضاء فليكن مغايراً بمعنى الاختلاف في العناصر المؤسسة للبنية السردية للرواية، فإن الاتجاه الغالب في نتيجة المنجز السردي فضاء يزدوج فيه الفضاء السردي وفق منظور نظرية النقد في الفضاء المزدوج Dual Space المرتبط بشخصيات السرد الروائي وسيروة أحداثه. تكشف الرُّواية فيما يستدعي تعزيزاً لمرحلة زمنية غائبة بإفتراض الرواي عن القاريء، ومن ثَّم تمثلُ الخلفية التأريخية – هكذا – كما وثقتها مرويات التأريخ مدعمة بشهادات مرجعية ( مذكرات أميرة عربية) مضاف إليها الوصف الطبوغرافي الذي لم يستثنِ حتى المكونات الايكولوجية للمكان ومراحل تكالب لمستعمرين من فرس وبرتغالين وعرب وانجليز على البَّر الأفريقي وسكانيه. تشيء الرواية بالعودة إلى عمق تاريخ أفريقي نازف وبرؤية سردية مجاورة لواقعه من الداخل من حيث موقع الراوي لا تسبقه تعميمات كما في رؤية الروائي جوزف كونراد لتناقضات هذا الموقع من العالم في رواياته الأشهر في قلب الظلام. وهذا ينبغى ألا يُعمِّم اتجاهاً ينزع إلى تصنيف رواية (سماهاني) ضمن دراسات ما بعد الاستعمار بما وظفته من هذه الوقائع التأريخية بتمثلها الخطاب السردي للرواية عبر توظيف الأسطورة والحركة الفيزيقية للشخوص في مسّارها التاريخي. ذلك التاريخ الذي ترّسخت صورته التاريخية كمستعمر اقتحم مجتعماتهم. استطاع الروائي أن يصور الاسترقاق عبر كحالة إنسانية ملتبسة، ولكن تمكَّنْ أن يتمثل التجربة سردياً (الاسترقاق) عبر منظور وجودي أكثر اتساعاً في رؤيته الكونية، وطبيعة الأسئلة التي يثيرها من خلال شخصياته الروائية. وبدت حالة الاسترقاق تعبيراً صريحاً عن رؤية شاملة تساءل العالم عن طريق سؤال ذي صبغة وجودية وإعادة مستمرة من خلال تنقل حدث الاسترقاق في عبر الشخوص الروائية ومكان ممارسته. وكما يقول السيميائي امبرتو ايكو: إن القصة والحبكة ليستا قضيتين لغويتين. إنهما بنيتان قد تكونان قابلتين للترجمة من خلال نسق سيمائي آخر، وبإمكاني استناداً إلى ذلك أن أروي نفس القصة التي ترويها الأوديسا، ومنظمة وفق نفس الحبكة من خلال الصياغة اللغوية.

زمن متجاوز:

رواية (سماهاني) لها خاصيِّة زمنيِّة تنفعل بها أحداثها وشخوصها،بل يكاد الزمن حالة مشروعة يرَّتكز عليها سرد الرواية في زمن تتابعي يتسق ولحظة وقوع الحدث. ومما يتوقع يقيناً أن يحل الزمن السردي الداخلي للرواية في زمنين تاريخي وسردي آخر معبرة عن الإحساس ضمن منظومة وجودية زمانية، أي الزمن في تقسماته الماضية كتاريخ مستقل، وآخر زمن الإيقاع السردي. تنوع الاحداث تتكاثف في زمن الرواية وتتعدد بقدر حركة الشخصيات في زمن النص السردي. فالأحداث االتي ترتبط بمكان الشخصيات الروائية أو تلك التي وقعت في زمن ماضوي توقفت في حدود الزمن الطبيعي ولم يعد للزمن إضافة، ولكن السرد الروائي بمدلوله الزمني (زمن السرد) يعطي بعداً آخر بطبيعة الزمن المتخلق في حركة الشخصيات والأحداث الروائية. وتجاوزت الرواية الزمن التاريخي بإدماجه ضمن مسَّار الزمن السردي؛ وبما أن التداخل الزمني بين الشخصيات وحضورها في كلٍ من النص السردي والتاريخ يجعل من العسير تتبع تفاصيله دون التباس فقد تمكن الراوي بقدرة سردية مكنته من إيجاد زمن متوحد محققاً تناغماً بين مكونات الرواية وتاريخها الزمني، حيث إن الزمن الجمعي المحيط بالشخصية الرئيسية في الرواية (الراوي) تحدَّدت مساراته ضمن تفاعلاتها مع زمن الأحداث والشخصيات الأخرى المتطورة في سياق الســـرد وإيقـــــاعه. فالزمن في الرواية انطوى على الزمن الروائي في تشكله الفني وقدرة الراوي على ضبطه وفق مقتضيات الخطاب الروائي، والدلالة الرمزية وهي حراك في الزمان والمكان معاً. فالسرد هو التتابع الزمني، بينما التاريخ هو اللحظات المستنفدة من الماضي ولكن استطاعت الرواية أن تجمع بين هذه المفارقة بإزاحة البعد التراكمي للأحداث والكشف عن مدلولاتها سرديا. فكانت الأحداث أو بعض منها رواية لنفسها بوصفها تحمل طابعاً تاريخاً محضاً ولو أن الزمن المتخيل قد ارتبطت بتواريخ بعينها كالميلاد والوفاة وتواريخ الغزاة كزمن موثق للمكان وأحداثه ايضا. إنَّ الزمن الوجودي (الفيزيائي) بأبعاده وقياساته تتطابق كما في النصَّ الروائي لا يتدخل في تفاصيل الاحداث الروائية أو يحددَّ حركتها الزمنية، ولكنه يلقي بأثره المحسوس ضمن الزمن الواقعي أو الموضوعي الذي تقع ضمنه حركة الشخوص الروائية في تتابع سردي بالرؤيا التي يتصورها الروائي لشخوص الروائية.

الصورة السردية:

في هذه الرواية (سماهاني) التي تندرج في المرتبة للروائي السابعة من أعمال الروائي صاحب الإنتاج الغزير، لاتكاد عوالمه –وفق مشروعه الروائي- بنزعته للمجموعات المُتنحيِّة التي تندرج بالمفهوم الثقافي السائد تحت تصنيف المجموعات الضعيفة Vulnerable وقد رافقت هذا المشروع، أي مشروع الروائي هذا التصور أو إيجازاً للتفسير الانحياز السردي هذا الانحياز السردي. وهو تعبير يُقوِّم من سياق المعنى الذي يفترض تحليلاً نقدياً يفضي إلى الأهداف التي يتوخاها السرد في أقصى مراميها. وهنا يبدأ إن لم يتخذ الرواي من التأريخ والجغرافياً مدخلاً للنص الذي تتعقد فيه الثيمة السردية، تعقيداً بما يفيد الحدث متطوراً في الأحداث والشخوص الروائية، كأن يضعنا أمام عوالم جديدة تترحل إليها أدواته السردية حاملة معها الصورة السردية Narrative Image بكل ما تحمله من تداعيات للمعلومات والبيانات والأفكار المترسبة وما تستنطقه حكايات موظفة سردياً بما يعرفه علم السيمولوجيا ( العلامات) بالمرموزات التي تقوم على التماثل. فالحكاية " الرواية" ينبغى ألا تكون كما يرى الناقد والمنظِّر الروسي فكتور شكلوفسكي "فعلاً" ولكن فعلاً مضاداً أيضا بمعنى ثمة تنافر بين العناصر وصيغتها المجازِّية. إذٍ رواية آخر (سماهاني) محاولة روائية جريئة أدمجت السرد الروائي في طبقات التاريخ بتوظيف كل من المادة التاريخية بالبحث استقصاءاً للواقعة التاريخية، وإعادة تفسيرها في سياق سردي ابداعي لا يعيد تشكيل الاحداث، بل ينزع إلى مقاربتها بأسئلة الرواية، و تصوراتها الفنية. وتكمن حساسيِّة المنطقة التي تؤدي فيها الروائي سردها مدعمة بمعطيات التاريخ في القدرة في تناول الحدث التاريخي كحقيقة واقعة، في وجود صورة أخرى تبنتها الرواية في الأخذ بما قرَّ من أطر سردية لكتابة جنس أدبي تتسع عوالمه لاستيعاب مضامين ومفاهيم وشخصيات ضمن نمط سردي آخر وبإسلوب مثيرٍ للحدث ومتصلاً مشتعباً يحكمه ايقاع سردي متضابط.

الوصف السردي:

وإِذ تقوم الرواية (سماهاني) في تقسيمها على تاريخ مثقل في جزيرة انغوجا في بَرّ زنجبار بين السكان الأصليين ( الرقيق) والعرب المهاجرين السادة بكل زخَّم التداخل الفنتازي والميثولوجي الذي أسرف الروائي في استخدامه تعميقاً لما يفهم منه ارتياداً غير مألوف ووصلاً لتأريخ مثخن بجراحات الماضي ساد المكان وأمتدَّ لحقب زمنية متطاولة. شخصية السلطان الذَّي باركه الرَّب محمد بن سليمان بن سليم وابنته وخادمها سُندُس متجاذَّبة بين خلفيات تتفاوت طبقة وممارسة لدور كل منهم، فإذا كان السلطان الذي يملك كل شيء في جزيرة انغوجا ووييمبا وابنته التي سيتنهي مصيرها في هروبها مع خادمها المخصي (مبتور الذكر) تتنزل صور تتزامن حيث كيف يُفسِّر كل منهما دوره أو مأزقه الوجودي. عوالم خلقها السردي الروائي بالاعتماد على مفارقات مُوثَّقة أو مُتخَّيلة لكنها تتحدر من وقائع أو مرويات حفرت على العرق والمكان والإنسان. ولكن ما يبدو جلياً من مسار الأحداث الروائية في تصاعدها انحياز الرواي على اجلاء الحدث التأريخي الخام كما لو أّن الشخصية الروائية عاجزة على تمثل ذلك الحدث، وهنَّا افتقاد لأهم مرتكزات السرد في اثارة الدراما أي ذروة اللحظة حين تستنطق الشخصيات لا المعلومة التأريخية. ولكن تمكَّن الراوي الاستفادة من طاقة سردية فادحة من تجاوز البؤر حيث يتعثر السرد في الاستطرادات المتأرجحة بين موقع الشخصية الروائية في النص السردي والحدث في واقعه المحايد. فالرواي يكتب نصاً من موقع خارجي تقوده معرفته المسبقة المتكونة عن قراءات قصدية دون إنتماء زمني إلى أي من عناصر هذا العالم ومكوناته الثقافية واللغوية، تكاد رؤيته وتفسيره لأحداث سادت هذا الفضاء كتابة ناقدة تلقي بأحكامها ضدَّ تاريخ سُكت فيه دماء وأٌبيدت شعوب واستعبدت. لقد أحدث هذا التداخل بين مصادر تاريخية متعددة أفضى إلى نصٍ متشابك Hypertextuality أو نصاً معلقا بالترجمة المغاربية يفيد في التناص وتعدد مصادر الخطاب السردي.

رؤيا العالم:

وغني عن القول، إن رؤيا العالم تأخذ بالخطاب الروائي إلى عمق مركزية التفكير في تفسير وتحليل الموقف الذي يتوقع أن يتخذه أو فئة (طبقة) ما في المحيط الانطولوجي للعالم؛ وهي مخاطبة للعالم وتطلعاً إلى حلام عبر مشاعر وتصورات تتجسد برؤية كلية للعالم، فالسياق الدلالي للمفردة الألمانية Weltanschauung وجهة نظر قد استخدمت بشكل واسع في حقول معرفية عدة، والأصل أنها النظرة الفلسفية في الوجود ومن ثَمَّ أصحبت تشير إلى كل وجهة نظر في الحياة والعالم. وهي بعد تشير إلى اشتمال الرؤية التي من خلالها ينفذ الموقف الذي يتصور العالم، وإن بنية هذه الرؤيا تنطلق من اتجاهات مختلفة في العالم الواقعي، حيث إن مصدرها فردي وجماعي معاً باعتبارها رؤية مكتونة عن خطابات عدة تشكل أصولها اللغة وأنماط التفكير والتخييل وهي ممارسات ذات صبغة فردية تتضامن في انساقها تكوين الوعي الجمعي. إن العالم في الوجود كما تشير عبارة الوجود في العالم ظاهرة موّحدة ينبغي أن ينظر إلى هذه الحقيقة الأولى، وهنا تزيح الرواية عن أهم مفصل تحدَّد به رؤيا العالم بين عالم الأرقاء والسادة في مرجعيتهم الميتافيزيقة واختلاف تفسيرها لظواهر الدِين وطقوس السحر الأسود لكل مجموعة. العلاقة بين الأميرة و خادمها المرافق لها سُندُس تأخذ حيزاً مقدراً بين أحداث الرواية، ففي هذه المنحى الانساني المفارق تنشأ علاقة أو بتعبير الراوي: صداقة مسكوت عنها تحتويها مفارقات تتناقض وسياق العلاقة من الموقع الوجودي لكل منهما. ولكن يظل الخط الذي يتحكم بتلك العلاقة تشوبه رومانسية لم تفلح في التعبير عن كيفية توقع ذلك الانعطاف الذي تتخذه هذا العلاقة بين أميرة وخادم مسترق مخصي يبحث عن مخرج لاستعادة عضوه المفقود. وقد تكون قراءة الدلالات واكتشافها ليتسنى رؤيتها بوضوح بقدر اربتاطاتها اللازمة للنص الروائي. في هذا الواقع العنيف يتجلى النص السردي أو الأدبي بمفهوم تودروف المظهر النصي ما بين مستوياته المتعددة من تركيب ودلالات بحثاً عن مقولات يتضمنها النصُّ السردي. العلاقة بين عالمين يمثل فيهما كل طرف موقعه ومؤدياً لدور مفترض، وبالتدخل السردي ينزاح المعقول ليكشف عن عمق انساني آخر وإن لم يحتمله الواقع. وقد تكون السمة الأبرز في أعمال بركة في الوصول إلى أقصى درجات القسوة وأكثرها اظلاماً كما تبدت رؤيته في روايته ( الجنقو مسامير الأرض، مسيح دارفور، الخندريس) حيث تطفو الغزائز الإنسانية معبرة ومعرية لحقائق واقعة يمثل الجنس فيها عنصراً محورياً جاذباً نحوه مما عدَّ في سياق المحظور من سلطة ودين، وغيرها من أسئلة تقاوم وتُقاوّم في محيط تُقيِّد فيه حركة العقل. ولم تبعد رواية (سماهاني) عن النصوص المحيِّطة ما يبن الصلَّة بين عوالمه الروائية وبؤر تركيزها. إذا كانت الرواية الأفريقية واجهة الخطاب السردي الأفريقي ومعلماً بارزاً في تشكلاته الفكرية والأبداعية، ووجودها يمثل إحدى صيغ الخطاب السردي الحديث في السرد الأفريقي، فإن أشكال التعبير الأخرى لم تكن غائبة عن شعوب القارة. فتاريخ الثقافة الأفريقية له امتدادت متجذرة في بنية ممارسات الطقوس الفنية والأشكال الجمالية تجلت في طقوسها الأسطورية والحكاية الشعبية وملاحم سير الأبطال وحكمة الشيوخ، وبالتالي تضمنت رؤية سردية تضعها ضمن مفهوم الخطاب السردي. وفي منهج تحليل النصوص تنبع مصداقية النص من دوره في الثقافة، فما ترفضه الثقافة وتنفيه لا يقع في دائرة "النصوص"، وما تتلقاه الثقافة بوصفه نصاً دالاً فهو كذلك. هذا الزخم الكثيف للحياة الأفريقية وصمودها في وجه موجات الابادة بالحدّ الذي صورته الرواية في تحقق طقس الحياة ممارسة في الأغاني والسحر والأفق الميتافيزيقي الذي تنتقل إليه ضراعات المقهورين ومن سلبت أعضاؤهم حين يذهب سُندُس إلى الرب في كهفه لإعادة عضوه المبتور.

استدعاء التأريخ:

ومثلما استدعت الرواية مآسي القرن التاسع عشر وجهدت في تتبع تفاصيل حياة ضاجَّة بالعنف راسمة صورة قاتمة لما جرى من أحداث تكشف بداياتها إلى ما ستنتهي إليه من فاجعة قتل الأميرة انتقاماً من والدها السلطان. هذه الاستدعاءات التأريخية المعالجة سردياً في رواية (سماهاني) التي اتخذت عنوانها من مفردة اللغة السواحلية بمعني الإعتذار الذي يغيب عن عوالم جزيرة انغوجا في بَرّ زنجبار ويستمر الانتقام لازمان تالية لم تشر إليه الرواية –حصرا بزمنها – ولكن اللحظة التي يستولى فيها السكان في ثورتهم على القصر سيمتد في زمن آخر معاصر انتقاماً من الضحايا ضد جلاديهم. إنها قراءة قصوى للتاريخ واحتواءاً لفصوله كما تبدت في فصوله التي عادة ما تكون ملهاة يصعب تفسيرها. وتبقى محدّدات الخطاب الزنجي ( الأفريقي) بكلمات الفيلسوف أشيل مبيمبي تهمين عليها ثلاث أحداث هامة: العبودية والاستعمار والفصل العنصري، ويتجلى ذلك في الخطاب الأدبي والسياسي والفني ولم يزل الخطاب الأفريقي سجيناً لها ولايعبر عن نفسه من خلالها.

ـــــــــــــــــــــــــــ

الرواية نت - خاصّ

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم