إحدى وظائف فنّ الرواية الأساسية هي فتح الكوّات التي تُمَكِن المتلقّي من رؤية الجوانب المنسية في الوقائع والأحداث، التي من دونها لا يكتمل فهمنا للحياة. يتعمّقُ الروائي في التفاصيل التي قد لا يتوقف غيره عندها، أو لا يدرك ما تمرّ فيه من التناقضات والصراعات. فهو يهتم بالمألوفات التي لا نتنبه لما تنطوي عليه من الأهميّة لشدّة إلتصاقنا بالواقع، إذ يبدأُ بتقديمها بحِلّة جديدة. وعندما نستعيدُ علاقتَنا معها بِفعل المتواليات الحكائية، نتوهّم أنّ ما نراه جديداً ولم يكنْ في متناولنا.وذلك تماماً ما يشعرُ به قارئ رواية «البلد الجميل»، وهي باكورة الأعمال الروائية للكاتب العراقي أحمد سعداوي، الذي يمنح موضوع عمله من صميم واقعه المثقل بالجروح التي تركتها الحروب على كيان المجتمع العراقي. فأحلام الإنسان هي أبرز ضحايا الحرب التي تجعل الحلم كابوساً لا تستطيعُ الهروب منه.

يسبر صاحب «فرانكشتاين في بغداد» في أغوار المجتمع العراقي، ويصوّر تقاليد ومعتقدات شعبية وإخلاص البسطاء لما يؤمنون به من الطقوس وتسامحهم مع المختلف عنهم دينياً. فهم يجمعون في بيوتهم رموز أديان أخرى مع صوَر أئمّتهم، ويسردُ أحمد سعداوي من خلال رصد مصائر بطل روايته حكاية الأنسان العراقي والمكان الذي ينزف بأحلام مُحطّمة.

عائد من الموت

تدور الروايةُ حول حياة «حلمي»، وهو شخصية أساسية ترفدُ دورها الشخصيات الأخرى. حلمي من أسرى حرب الخليج الأولى التي أصيب خلالها بجروح بليغة ونجا من الموت بالأعجوبة. وبعدما تلقّى العلاج لدى الأميركيين يعود إلى بغداد.

ويحاول أن يتأقلمُ من جديد مع مُحيطه. وهنا تبدأُ الروايةُ بمقدمةٍ منولوجية يسترسلُ المتكلّم في حديثه، مستحضراً صورة «نود»، يناجيها مخبراً إياها بتجربته في الغربة، مع أنَّ الراوي لايذكر إسم المكان الذي قد أقام فيه «حلمي»، لكنّ أسلوب حياة «حلمي» ومرافقته لصديقته الأجنبية ينبئ بأنه كان في مدينة غربية.

ولدى وصول «حلمي» إلى بغداد، يبدأ استعادة حياة هذه الشخصية، ويتعرّف المتلقّي على طبيعة المكان والأسرة التي قد نشأ فيها، ويذكرُ الراوي أسماء الأزقّة وطوبوغرافيّتها. ويَرسُم تصاميم البيوت بإسلوب يقرّب إلى ذهن القارئ صورة الحياة الأسرية والإجتماعية داخل المناطق الشعبية. وفي ذلك، يشبه نجيب محفزظ الذي قد إنطلق من قضايا محلّية لتناول الهموم الإنسانية.

ويعتمدُ الراوي على تقنية الإسترجاع وتعصير ما تختزنه ذاكرة الجدّة من الحكايات عن أصل العائلة ومنشأها، والظروف التي دفعتها للإنتقال إلى بغداد، ليعطيك تصوّراً عن المناخ الذي يحيط بشخصية البطل وما ورثه من جدّه في ملامحه الخارجية، وهو معروف بوسامته ولون بشرته الناصعة. كما يتمّ إلقاء الضوء على مراحل من حياة «حلمي» وعلاقاته مع أصدقائه قبل أن يسوقه القدر إلى الحربِ ويقع أسيراً.

الفضاء الروائي

تتعدّد البنية المكانية في رواية «البلد الجميل»، وتتوزّع الأمكنة بين البيت والشارع والأزقّة والمقهى والفنادق. ويتعمّد الراوي ذكرَ أسماء الأمكنة التي تتضافر مع الأحداث والمشاهد الحوارية لتأسيس الفضاء الروائي، ويقترن مسار الشخصية الأساسية بهويّة المكان، ويلتقي «حلمي» في شارع المتنبي بصديقه «عيدان» بعد إنقطاع طويل، كما أنّ المصنع الذي يعمل فيه يجمعه بـ«ندى». وإنتقال عدسة الراوي يكون عاملاً مهمّاً لتصوير جزء من جغرافية مدينة بغداد التي تتحوّل إلى بؤرة يتعاقب فيها الحدث الروائي.

ما يروم إليه الراوي من خلال إيراد أسماء الأمكنة مثل مقهى «حسن عجمى» و»أم كلثوم» أو شارع «المتنبي»، أو مبنى «أكاديمية الفنون» و«مقبرة الإنكليز»، هو أن يضع المتلقّي في إطار المكان الذي يعوّل عليه في عملية الفعل الإقناعي، وبجانب ذلك نلمس الإهتمام بالرموز والعلامات الدينية بحيث نجد روحيّة متسامحة للدين، لا تؤمنُ بأنّ الأديان تتحوّل إلى حاجز يمنع التواصل بين معتنقيها، فتحتوي غرفة الجدّة على صوَر الأئمة مع صورة المسيح.

والمكوّن المكاني في رواية «البلد الجميل» مشحون بصوَر مرويَّة، ولا يمانع الراوي أن يغوص في موقع «حلمي» لينقل لك كلّ ما تحتويه غرفة الجدّة من صور وأغراض.

وإذا إنصرفنا إلى البنية الزمانية، نكتشف أنّ الأحداث تجري في زمن ما بعد الحرب الذي يتداخل مع أزمنة أخرى. وتتوفّر لدينا معطيات تضعنا في عراق ما قبل النظام الجمهوري. وبجانب ذلك، هناك الزمن النفسي للشخصيات الروائية، لكن، غير منفصل عن الزمن العام.

التنوّع الأُسلوبى

إنّ المبنى الحكائي إضافة إلى وظيفته التنظيمية لايخلو من الأبعاد الجمالية. وتتناوب أساليب متنوّعة في رواية «البلد الجميل» من السرد والتداعي والمونولج والحوار، كما في تقديم المقاطع الوصفية النابضة، لا سيما في المقطع الذي يخصّصه لتصوير إنتقال أسرة «كشاش»، وهو جدّ «حلمي» إلى بغداد ويبيّن تفاوت الإدراك والمشاعر بين الأم والإبن وهما في الطريق إلى أرض جديدة. كما توجد التعدّدية في اللغة الحوارية إذ تتجاور اللغة الفصحى مع اللهجة العراقية.

يوظّف الكاتب اللهجة العراقية في الحوارات الدائرة بين أفراد أسرة «حلمي»، والحوار بين «ندى» وأمها لا يأتي إلّا باللهجة الدارجة، بينما الحوار بين «حلمي» وصديقه «عيدان» ورسول الكاتب يعتمدُ اللغة الفصحى، وذلك يخدم محاولات إكتشاف التباين في مستويات الوعي «لأنّ اللغة في الرواية هي طريقة معيّنة لرؤية العالم على حدّ قول الناقد باترسن».

ويحاول صاحب «أنه يحلم أو يلعب أويموت» توظيف تقنيات السرد في عمله الروائي خصوصاً، فضلاً عن الاستباق والاسترجاع والتلخيص، ناهيك عن إستخدام أُسلوب الرسائل في الرواية الذي يستدعي حضور المروي له. يمرّ الرواي بمستويات متعدّدة، أحيانا يكون راوياً من الخارج أو يتماهى مع شخصية البطل، غير أنّ مُراقبته لشخصيات الرواية في وقت واحد.يجعله أقرب إلى الراوي العليم.

بُنية المأساة

يهمين على الرواية إيقاعٌ كئيب من البداية إلى أن تُطوى الصفحة الأخيرة. فمصائر شخصياتها مشبعة بالتراجيديا، وجسد «حلمي» الذي يحملُ آثار الحرب ينتهي به الحال لأن يأوي الى الفندق ويهدّ المرض العضال جسدهُ النحيل. يختار «سامي» الفنان الرحيل، متوجّهاً إلى الأغتراب ويظلّ مفقوداً. «عيدان» ينزل في السجن بعد تورّطه فى أعمال سطو وسرقة.

رسول الكاتب يطرده أهله، إذ يمثّل الشريحة المثقّفة التي لا تظهر في الرواية العراقية إلّا بصورة مأزومة، كما لاحظ الناقد ياسين النصير. ويستعين الكاتب بالأساطير كمعادل موضوعي لمصير شخصيّاته، مثل إسطورة «بيغالميون». وتعالج رواية «البلد الجميل» في أقسامها الثلاثة ما يترنّح تحته الإنسان المقهور لما ينجم من الحرب من المآسي وما ذاقه من الألام الناتجة عن انعدام العدالة.

عن صحيفة الجمهورية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم