دأب المشتغلون في الأدب على إيلاء الرسالة السياسية التي يريد الكاتب إيصالها عبر عمله الأهمية الفضلى على محتوى النص الإنساني أو حتى على الشكل الفني، ولا سيما إذا كانت هذه النصوص قابلة للتأويل ولتحميل الغايات المختلفة.

في رواية محمد المنسي قنديل، “كتيبة سوداء” الصادرة عن دار الشروق، لا يمكننا المجازفة بالحديث عن المضمون السياسي لهذا العمل، وذلك بسبب تفوق الحكاية التي يحوكها الكاتب، إذ أنّه يرفع من قيمة السرد، ويعزز الحبكة، فيقيد الجمل بشكل محكم كي تخدم التفاصيل الكثيرة الغنية والغريبة عن عالمنا اليوم. بالتالي، يجعلنا الكاتب عاجزين عن التأويل، بعيدا عن الملحمة الشرسة لمخلوقات أسطورية شكلت “الأورطة السوداء” الذين أرسلهم الخديوي سعيد باشا للقتال في المكسيك تحت لواء الجيش الفرنسي، وليرسم الكاتب مصائرهم في حرب غامضة، إذ “سيكونون جميعا في مكان لا يعلمه أحد، مع قوم لا يعرفون لغتهم ولا يفهمونهم، وربما لا يعرفون لماذا يحاربون من أجلهم؟”. تبرز لغة قنديل لغة مساومة تقود القارئ إليها ثمّ تكبّله بقيود سحرية، عندما يتحدث تاجر الرق لزعيم القبيلة فإنّه يقول كلمات ماكرة كي يقنعه بشراء البنادق، فيسمي الذخيرة “بذور الموت”. كذلك نجد لغة الإمبراطور ماكسميليان لغة حالمة، تشبه إلى حد بعيد تفكير الرجل الأبيض الذي تحركه الأمثولة الأوروبية. لكن، على الجانب الآخر فإنّ المثير للإعجاب، هو التعاطي مع اللغة على أنّها أداة حرب، بشكل أو بآخر، إذ يقول القائد المصري عندما يكتشف البلد الذي يقادون إليه “ما دمت لا تفهم لغة قوم فلن تتعاطف معهم. ولن تألفهم، ستظل تقاتل دون رحمة”. وتظهر شخصية المترجم مظلوم أفندي حاملة للفروقات بين عالم البيض وعالم السود، فقد أضفت هذه الشخصية الجوهرية جوا ساخرا وسط مأساة الجميع، ليتجلى غياب اللغة صارخا محموما مرفوقا بقبضات اليد وحركات إيمائية، وعواء، ورذاذ متطاير.

يحوم الجوع كمحرك للأحداث في العديد من جوانب الرواية، منذ بداية تشكل الكتيبة السوداء، يتأمل تاجر العبيد صفقته، صفقة عبيد منسحقين وخائفين يرفضون أن يأكلوا، لكن التاجر يعرف أنّ “الجوع دائما أقوى من الخوف”. فيأكلون وهم خائفون. ثمّ بعد أسابيع من امتناعهم عن أكل لحم الخنزير على متن السفينة التي تقلهم إلى المكسيك “سيجعلهم الجوع يأكلون أي شيء”.

وأخيرا في خضم الحرب التي تتنازعها الخيارات فإنّهم “يعيشون على حافة الجوع، لا يصلون أبدا إلى مرحلة الشبع”. وذلك كي يحافظ الفرنسيون على وحشيتهم، أي بمعنى أكثر وضوحا كي لا يخرجوا عن الولاء الأعمى في حرب هم في الموقع الخاطئ منها. غزاة، رغم انتمائهم إلى شعب مضطهد. حتى عندما تمارس الإمبراطورة الحب بقسوة ومتعة وألم مع العبد الأسود فإنّ “الجوع الذي طال أمده” كان دافعها، جوع رحمها للامتلاء.

إثر الوشاية التي تعرض لها التاجر من السينورية سيقول له السلطان، وهو يسلبه تجارته “سيصبحون جنودا ويوما ما سيصبحون أحرارا مثلك” وبعدما يصبحون جنودا سيكتشفون حقيقة كونهم “أفضل قليلا من العبيد”.

أظهرت الرواية مظاهر عدة لحياة الأباطرة، وللمؤامرات التي تحاك في الظلال، وللخواء الذي يملأ سريرتهم، فإن كانت الملكة فيكتوريا قد أخبرت ماكس عند رحيله إلى المكسيك “سوف يقتلونك يا صغيري” فإنّ شارلوت قد تاهت في عالمها الجديد، حتى أنها فكرت بحتمية تلوث جسدها بدواعي السياسة، وذلك بعدما امتنع الإمبراطور عن جسدها دون أجساد الأخريات.

تطفو الحرب بجانبها الإنساني، فقط عند عساكر الكتيبة السوداء، على الرغم من إتقانهم تلك اللعبة المميتة، وإدراكهم بأنّ عليهم إهدار دماء الآخرين، حتى ينقذوا دماءهم ومعرفتهم بأنّ “الحرب هي أن تسبق عدوك في القتل”، لكن بناء على نهايات العاصي وجوفان، فيمكن لنا القول بأنّ الألم والمعرفة كانا يزدادان في الوقت نفسه، لقد كانوا آلهة في الغابة ولم يكونوا عبيدا، وعاشوا الحرب، بأكثر تفاصيلها قسوة.

لا يفوت الكاتب الإشارة إلى جدوى الأوسمة على صدور الموتى؟ ولا يفوته القول بأنّ الحرب تهزم الجميع، وتحوّلهم إلى وحوش. يتحدث قنديل عن جيوش تتم هزيمتها قبل الدخول إلى المعارك، عن جيوش تخوض حروبا خاطئة، لكن الزمن لا يتوقف والحرب لا تنتظر. وترسم الهزيمة في رواية “كتيبة سوداء” على أنّها هزيمة ملحمية وشاملة. عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم