لا شيء يدلّ على صنعاء التي تجري فيها أحداث الرواية. لا ذكر لأيّ شيء يعرّفنا أننا في هذه المدينة، لا عمارة ولا تاريخا ولا حاضرا. هناك فقط تلك الحادثة المروّعة التي حدثت في الجامعة، حيث كان أحد الأساتذة يغوي الطالبات ليوقع بهنّ ثم يقتلهنّ ويواري جثثهنّ في أرضية المختبر. لا نعرف إن كانت هذه الحادثة واقعية أو أنها تحولت إلى تاريخ عام يشترك اليمنيون في تذكّره. لكنها، في ما خصّ سلوى، وفي ما خصّ صديقتها القديمات (من أيام الجامعة) محور أساهنّ ونظرتهن المتشائمة السوداء إلى عالمهنّ، على رغم انقضاء السنوات وتحوّلهنّ إلى نساء أمّهات بعد أن كنّا بنات جامعيات.

سوى ذلك لا شيء يدلّ، باستثناء علامات قليلة نادرة، على أننا في اليمن. المكان الذي تعيش فيه سلوى وإبنها حمزة هو مكان "عام" بلا أوصاف خاصة. كان عليّ، لكي أتيقّن من أنني قرأت فعلا إسم صنعاء، أن أعود، مرّة أخرى، إلى الصفحات التي سبقت. ذاك أن لا شيء خاصا في حياة تلك الأسرة الصغيرة، لا شيء يمنيا أقصد. فهنا نحن مع سيدة حديثة قد تكون لبنانية أو تونسية أو مصرية. وها هي تقرّر أن تُلحق ابنها الذي في السابعة بالمدرسة، بعد تأخّر سببه خيارها الخاصّ، الحديث أيضا، مؤثرة تعليمه بنفسها. وهاهي تحمله إلى المدرسة في اليوم الأول، بسيارتها، وها هي تذهب بعد ذلك إلى السوبرماركت للتسوّق الحديث و"العام" مرّة أخرى. أما علاقتها بزوجها (شهاب) المهاجر إلى هونغ كونغ فبدأت تصبح مأزومة على غرار ما قد يحدث بين أيّ زوجين في فيلم عربي أو أميركي.

ما تقترحه علينا رواية سميّة طه، من دون أن تكون عالية النبرة في دعوتها هذه، هو أن لا نعود ننتظر الأجواء المميِّزة الخاصة بالبلدان في الروايات. أقصد أن لا تأتي الرواية لتعيدنا إلى ما نعرفه، أو ما نحبّ أن نعرفه، أو ما نتخيّله، عن ذلك البلد. لم نعد في الوقت الذي نقرأ فيه السودان مثلا على نحو ما كتبه الطيّب صالح مثلا، ولا أن تكون الكتابة عن الصحراء، وهي كتابات كثيرة، دعوة إلى الإفتتان أو الإندهاش بعوالمها.

وإلى ذلك، ما تعانيه سلوى يقطع مع الراهن العام أيضا. باستثناء إشارات قليلة ونادرة هي أيضا، تجري فيه الحياة منفصلة عن أي تأثير فعلي يأتي من خارجها، إلا إذا اعتبرنا أن السوداوية التي يعاد التذكير بها بين الحين والحين مردّها إلى ما يجري في اليمن الآن، ذاك الذي لم تقف الرواية عند أيّ من عناوينه أو أيّ من تفاصيله. إنها حياة داخلية قائمة على التذكّر والضجر والتردّد وتقطّع الروابط العاطفية والوقوف على عتبة الإنهيار العصبي. وإذ يعود الماضي قويا، بمعاونة الصُدفة التي تمثّلت بلقاء سلوى المفاجىء بإحدى الصديقات القديمات، فذلك يدلّ أيضا على الإنصراف عن العالم الخارجي وانعدام التأثّر بمجرياته.

كما تقترح علينا رواية "المشرحة" (بعنوانها هذا الخالي من أيّ صدى أدبي أو بلاغي أو عاطفي... إلخ) أن نتجاوز عن الإحتفال الكتابي بالأحداث الكبيرة والحروب، وهذا ما كان وجهة سائدة في كتابات البلدان العربية التي عاشت، أو تعيش الآن، حروبها. ما يظهر هنا هو غلبة الحياة الخاصة على كلّ ما عداها وتقديمها على ثيمات الأدب الأخرى. وهذا سيبدو خجولا ومنخفض الصوت في زمن الصراعات الأكثر خطرا والأعلى دويّا، إذ كيف ستُستقبل رواية تاتي من خارج هذا الدويّ، وهي رواية أولى للكاتبة على الأرجح، يصعب أن تزعم السعي إلى الريادة، بل الأرجح أنها غير مدركة لما افترضنا أنها تقترحه، بحسب ما افترض القارىء الساعي إلى تتبّع الدلالات والإمعان في تأويلها.

* "المشرحة" هي الرواية الأولى لليمنية سميّة طه على الأرجح، طالما لم تذكر دار النشر (الساقي) عنواناً لعمل سابق لها على جاري العادة. صدرت هذه السنة، 2016. والرواية ضمن محترف نجوى بركات للرواية ومشروع آفاق.

عن صحيفة المدن

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم