الاحتضار كمرآة لصور الحياة ومكابداتها وصراعاتها يرسم الروائيّ الأمريكيّ ويليام فوكنر (1897 – 1962) الحائز جائزة نوبل للآداب سنة 1949 في روايته «بينما أرقد محتضرة» صوراً للحياة في الريف الأمريكيّ النصف الأوّل من القرن العشرين، حيث تتخضّب تلك الحياة بالصعوبات الكثيرة. يرصد من خلال توصيفه لتلك الحياة، بما فيها من معتركات وصراعات، تقاليد الناس وعاداتهم وتطوّرهم، أوجاعهم وآمالهم والتحدّيات التي يواجهونها في سبيل تحقيقها، وغير ذلك من جوانب التمرّد والشكّ وصراع الدواخل، ناهيك عن سجالات فلسفيّة يجريها بين شخصيّاته وواقعها. تبدأ الرواية - ترجمها توفيق الأسديّ ونشرتها وزارة الثقافة السوريّة - بتصوير حالة آدي بندرن، وهي ربّة أسرة وأمّ لأربعة أبناء وبنت وحيدة، راقدة على فراش الموت تنازع وتحتضر، يزورها بين الحين والآخر جيرانها ومعارفها، تكون رغبتها الأخيرة هي أن تدفن في مقبرة ذويها في مدينة جيفرسون البعيدة عن بيت زوجها آنس بندرن ومزرعته. لذلك يحتاج الأمر إلى نقل جثمانها بالعربة بعد موتها، ما يخلق حراكاً مستمرّاً ويؤجّج صراعاً دائمَ التجدّد. يبرز فوكنر كيف أنّ الحياة تسير وفق ما هو مخطّط لها، تمضي الشخصيّات في رحلتها الحياتيّة، وبينما ترقد الأمّ محتضرة، تكتشف الصخب الدائر من حولها والذي يودي بها بعد موتها، وكان قد أنساها نفسها في حياتها التي مضت في البقعة المقيّدة نفسها، وما إن تهمّ باستعادة حكايتها واقترانها بآنس بندرن قبل عقود، تكشف عن جوانب مختلفة في شخصيّتها، تجد نفسها منساقة وراء تأويلات وأفكار غريبة، ثمّ تتوقّف عند تعابير وكلمات بعينها، كالخوف والحبّ والكره والموت، وتذكر إيحاءاتها وتجلّياتها، وصور الحياة الرتيبة تارة والعنيفة المجنونة تارة أخرى، ما يضعها أمام مساءلة لحالتها، بينما ترقد محتضرة، لتكتشف العالم من جديد، في الوقت الذي تكون موضع شفقة من المحيطين بها الذين يكتشفون بدورهم أشياء جديدة بفضلها. لا تكون رقدتها الأخيرة مرآة لروحها وأفكارها وحدها فقط، بل تُمرئي لجميع أبنائها صورهم وتطوّر شخصيّاتهم، كلّ واحد بمعزل عن الآخر، وضمن الحلقة المكانيّة والزمنيّة نفسها، وكذلك تكون بادرة تدفع الجيران والمعارف إلى مراجعة ذواتهم أيضاً، والتوقّف عند أحداث وأفكار ربّما لم يكن يخطر لهم أنّها قد تكون بتلك الأهمّيّة أو ذاك التأثير. أبناء آدي الخمسة «كاش، دارل، جوويل، وديووي ديل وفاردمان»، يحيطون بها، يكونون قريبين منها في بعض الأوقات، كما تراهم ينشغلون عنها في حالة احتضارها التي تمتدّ أيّاماً، فيكملون بعض أعمالهم التي يسيرون فيها وفق إيقاع يتلاءم مع طبيعة تلك المرحلة المفعمة بالمشقّات، ولاسيّما أنّ الاعتماد على الجهد العضليّ في الأرض والعمل كان الغالب، وكان لابدّ من قضاء ساعات طويلة في العمل للحصول على إيرادات قليلة تمكّنهم من الاستمرار وتلبية مطالبهم. الأب آنس بندرن يكون خمولاً غير مكترث كثيراً بأعماله، يجبر أبناءه على القيام ببعض الأعمال نيابة عنه، وبوصف هيئته الجسديّة وملامحه، يحرص فوكنر على التذكير بأنّه فاقد أسنانه كلّها إلّا سنّاً واحداً، ما يبديه بشكل كاريكاتيريّ من جهة ما برغم حالته المأسويّة وحالة احتضار زوجته آدي، وتأنيبه المستمرّ لنفسه، وتندّمه على كثير من أفعاله، بخاصّة أنّه يشعر بانقضاء فرص تدارك ما فاته، واستدراك الأخطاء الكثيرة التي وقع بها وتسبّب بها لغيره وأولاده أيضاً. تتصاعد الأحداث وتتعقّد بدءاً بذهاب دارل وجوويل بالعربة الوحيدة التي تملكها العائلة لنقل حمولة إلى قرية مجاورة ليكسبا ثلاثة دولارات فحسب، ثمّ يسوء الطقس وتنقلب بهما العربة في طريق العودة ما يؤخّر عودتهما إلى البيت، وتموت أمّهما في تلك الأثناء دون أن يتمكّنا من توديعها الوداع الأخير، ما يؤخّر بالتالي نقل جثمانها لبضعة أيّام إلى مدينة جيفرسون، بحسب وصيّتها. التصاعد الدراميّ يبلغ درجة من التأثير حين انطلاق أفراد الأسرة في رحلتهم لنقل جثمان أمّهم، إذ يكون منسوب النهر قد ارتفع بسبب الأمطار الشديدة، وتكون الجسور قد انهارت، فيتكبّدون الكثير من المشقّات ويعانون صعوبات كثيرة ولا يتمكّنون من دفن الجثمان إلّا بعد مرور ما يقارب عشرة أيّام على وفاة الأمّ، وهم يعانون جرّاء إنقاذ جثمانها، ما قد يودي بهم في تلك المحاولات الحثيثة لتحدّي المياه الفيّاضة المتفجّرة. بمقابل الأب الكسول ذي الشخصيّة الغريبة التي يمتزج فيها الضعف بالعناد في بعض المواضع، يكون وجود الزوجة ذات الشخصيّة المعقّدة المتحيّزة لأطفالها أكثر من زوجها، مرجّحاً كفّة الأمّ وتأثيرها في الحياة ذات النمط الفلاّحي في القرية، حيث الانشغال بالأرض والحقل والحيوانات، والسعي الدائم للقيام بالواجبات التي لا تنتهي في سبيل تأمين مستلزمات البيت والأولاد. أمّا الأبناء فيحضر كاش بشخصيّته المتفانية في العمل، وهو الذي يعمّل نجّاراً فضلاً عن مساعدته لأهله في الأرض والبيت، ويكون دارل صورته النقيضة، كسول كأبيه، غريب الأطوار، وهو الذي يختاره الروائيّ ليكون راويه في حوالي ثلاثين فصلاً من أصل تسعة وخمسين فصلاً. بينما تحضر صور جوويل الذي يظلّ بعيداً عن اهتمام الروائيّ ويكتفي برواية فصل وحيد في الرواية، يبدو عنيفاً ذا إرادة وتصميم. ثمّ تكون الابنة ديووي ديل الفتاة الوحيدة التي تشعر بظلم كبير بين إخوتها الذكور. ويكون فاردامان أصغر أبناء الأسرة المعبّر عن دهشة الطفل أمام الأحداث الكبيرة التي يشهدها أو يخوض فيها. يتعرّف القارئ خلال رحلة الاحتضار والدفن والغرق إلى الشخصيّات الكثيرة التي تروي كلّ واحدة منها مشاهد ممّا يجري من وقائع وأحداث، ويكون في تعدّد الأصوات تنويع لإيقاعات السرد وتوصيف من مختلف الزوايا للحادثة نفسها، ما يلقي عليها نظرة ثلاثيّة الأبعاد، ويشكّل تصوّراً حيال المرحلة التاريخيّة المُعالَجة، وظروف الحياة الاجتماعيّة في الريف الأمريكيّ في فترة الثلاثينات من القرن العشرين. احتضار آدي بندرن يكون بمثابة الكشّاف لحياة اجتماعيّة صاخبة في هدوء الريف وعزلته، يظهر فوكنر من خلال مشهد الاحتضار الممتدّ زمناً صور الحياة التي تشبه الموت البطيء في كثير من النواحي، ويمكن تلمّس حدّة التغيّر بين شخصيّة وأخرى، سواء من حيث الهموم والانشغالات أو الأحلام والطموحات، وتكون حالة الموت بدورها طريقاً لمراجعة سبل الحياة وصيغها واختلافها، وتثير كثيراً من التساؤلات حول جدوى الانهمام بأمور تفقد المرء كثيراً من الجهد والتعب، وتبقيه رهين قيود يصعب عليه التخلّص منها أو كسرها. يعتمد فوكنر على الفصول القصيرة المتعاقبة التي تدور في دائرة الحدث وتحاول الإحاطة به من مختلف الجوانب، وقد تبدو الرواية معقّدة ومتشعّبة على طريقة فوكنر في عدد من أعماله، ولاسيّما أنّ الأزمنة تتداخل فيما بينها فيها، وكذلك تتداخل الأصوات، بحيث يضطرّ القارئ لاقتفاء أثر الشخصيّات في بوحها، والعودة إلى أحاديث سابقة لبعضها أو الربط بين ما تقوله عن نفسها وما يقال عنها على ألسنة شخصيّات أخرى تكمّل مشهديّات الحياة – الاحتضار. يشدّد فوكنر من خلال توصيفه حالة المكابدة والمعاناة صراع المرء في حياته، سواء كان ذاك الصراع متمثّلاً بالعمل أو الأمل. يستعين لإيصال رسائله ومراميه بتوصيف صراع أبناء آدي ضدّ النهر، ومثابرتهم على تخطّي مخاطر الغرق والسعي لتحقيق أمنية الأمّ الميتة ووصيّتها الحيّة، ويكون في التعاون ما يحقّق لهم القدرة على تخطّي المشقّات وتلافي الغرق، وإن كان الجثمان يكاد يضيع في دوّامة المياه بين الساعة والأخرى، بحيث يصرخ أحد أبناء آدي إنّ أمّه سمكة، في فصل يتألّف من هاتين الكلمتين فقط، والسمكة التي يشير إليها تظلّ غارقة في نهر الحياة الذي يصعب تخطّي اندفاعته وفيضانه دون إعادة تشييد وبناء للجسور المنهارة، الجسور التي تتمثّل في بعض جوانبها بالأخوّة والتكاتف والتعاضد بين أبناء الأسرة أوّلاً والمجتمع ثانياً. حبكة فوكنر في روايته ملغزة، اعتمد تحبيك عدّة فصول ببعضها، مازجاً بين الأحداث وملتقطاً المفارقات في تنقلّه بين الراوي والآخر، تتعدّد الذرا أيضاً، إذ تحضر بين الفصل والآخر ذروة تتشابك فيها الأحداث لتنجلي مهيّئة لتعقيد تالٍ وذروة لاحقة، وهكذا من ذروة إلى أخرى يرسم تفاصيل الحياة في الريف ومكابدة الشخصيّات، ولا يغفل عن رسم مسارات الحياة بالنسبة للكائنات المكمّلة لصور الحياة في الريف، حيث الحصان يحتلّ صدارة الاهتمام، ويكون بطل المكان دون منازع، فضلاً عن الموت المخيّم. يشار إلى أنّ فوكنر الذي ولد في ولاية الميسيسبي لم يكن ناجحاً في المدرسة، كما أنّ الجيش الأمريكيّ رفض قبوله في سلاح الطيران نظراً لقصر قامته وذلك من خلال الحرب العالميّة الأولى، فتطوّع في سلاح الطيران الكنديّ لكنّه لم يشارك في الحرب. وبعد انتهاء الحرب التحق بجامعة الميسيسبي لفترة من الزمن ومارس بعدها أعمالاً متنوّعة، وبينما كان يعمل في نيو أورليانز قابل الروائيّ الأمريكيّ شيروود أندرسون الذي شجّعه على الكتابة، فألّف روايته الأولى «راتب جنديّ» سنة 1926، ثمّ كتب عدّة روايات لاحقاً، أشهرها روايته «الصخب والعنف» 1929. عن مجلة دبي الثقافي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم