"غرفة مثاليّة لرجلٍ مريض"، هكذا من عنوانها، توقعك رواية الكاتبة اليابانيّة يوكو أوغاوا، بترجمة باسم حجّار، في ارتباكٍ عاطفيٍّ حيال المعنى، إذ تستدعي الغرفة المثالية صورًا ذهنية تحمل على الارتياح والدفء والحميمية، ثم وما إن تقرنها الكاتبة بوظيفتها أو تعيد ملكيتها "لرجلٍ مريض" حتى يضطرب مزاجك، وتختل تلك الصور الذهنية الأولى ليحلّ محلها شعورٌ بالكآبة، التوجس، أو أي من تلك المشاعر التي تستدعيها كلمة "المرض".

حالة الارتباك والتشويش تلك، لا تتوقف عند عنوان الرواية، وإنما تستمر على امتدادها، تخلق خلالها أوغاوا مجموعة تباينات غير اعتياديّة، وتترك لهذه التباينات أن تفعل فعلها في ذهن القارئ، ثم تدفعه عبر هذا التشويش إلى تغيير مشاعره نحو الأشياء، وتأخذه من يده نحو السلوك غير المبرر أو المفهوم ليبدو في هذا السياق ذا مغزى.

تبدأ الرواية عندما تتلقى سيّدة اتصالًا هاتفيّا من أخيها الأصغر طالبًا منها أن تدبر له موعدًا في المركز الطبيّ الجامعيّ حيث تعمل، ثم يبدأ بسرد الأمور التافهة جدًا التي كانت تشغل باله حينها، مثل "البيض أو قناني الكاتشب المتبقية في الثلاجة، وبطاقة عضويّة في نادي السباحة التي حصل عليها أخيرًا، وتصنيف الملفّات التي طلبها منه المشرف على دروسه الجامعية" يوميات كان يمكن تأجيلها، انشغل بها الشاب عن عبء مرضه، ليحدث أخته عنها بقلق بدلا من إبداء مخاوفه من المرض. تصف المرأة بعدها رتابة إجراءات استقبال أخيها في المشفى، بدقّة مملة، تصبح خلالها عملية دخول أخيها للمشفى مجرد إجراء يتم بشكل منظم ودقيق، وتضيع الدراما في الروتين.

يدخل الشاب إلى المشفى وتمضي السيدة وقتها في مراقبة هذا الصراع المميت الذي لا تجعلنا أوغاوا نشعر بضراوته، وإنما بتسلله الهادئ إلى جسد غريمه الشاب الوسيم ذي الـ 21 ربيعًا، تضللنا عبر إسهابها في وصف غرفة المريض في المشفى: بالغة النظافة والترتيب، الملاءات المكويّة للتوّ، بياض الفراش، بياض الأثاث المحيط بالفراش، نظافة السّخان والمجلى، وبقية الأجهزة والتي بدا من مظهرها، ككل شيء في هذا المشفى، الاعتناء بها وبصيانتها بشكل منتظم. وتذهب السيدة إلى أبعد من ذلك في علاقتها بالمكان بقولها: "كان نقاء غرفة المريض تلك يجعلني مطمئنة. الكنبة والنافذة، الثلاجة والجدران، الطاولة والسرير. فكلّ ما فيها سهل مستقيم أو عموديّ بزاوية قائمة حتى ذلك اليوم لم يكن قد أتيح لي أن أرى مثل تلك النظافة الوديعة"، وتقول: " كنتُ أعشقُ غرفةَ المرضى تلك. إذ أشعرُ حين أكون فيها بِدَعَة المولود الجديد الذي تغمره مياه حمّامه الأوّل. ويغدو جسدي نقيًّا من الداخل، شفّافًا حتى آخر تجويف فيه".

تنقلنا بعدها أوغاوا مع السيّدة إلى منزلها الزوجيّ، حيث أول ما يقابلنا هناك حالة "العتم" التي تلف المكان، بمقابل ذاك البياض الذي يحفّ غرفة المريض، الحوض المليء ببقايا أطعمة وصحون متسخة في مجلى منزلها، بمقابل نظافة مجلى غرفة المريض، الذي أصبح جسده لا يتقبل الأطعمة وروائحها وأشكالها، وهو الذي كان قلقًا منذ بضعة أشهر على بقايا البيض وقنينة "الكاتشب" في الثلاجة!

وفي حين يتوغل المرض في جسد أخيها، ويفقد شهيته ووزنه، ولا يعود جسده يقبل سوى حبات العنب، تحملنا الكاتبة إلى حوار جاف بين السيدة وزوجها دائم الغياب، العائد من معمل أبحاثه، مصوبة عدسة وصفها على صحن اليخنة باللحم الذي تصبح عملية تقطيعه، تناوله ومضغه من قبل زوجها، عملية قاسية أو غير محبّبة للقارئ، رغم اعتياديتها. وهي -الكاتبة- لا تحدث مقارنة صريحة أبدًا، غير أنها تتلاعب بالأثر الذي تتركه الكلمات في ذهن القارئ وتترك له عناء المقارنة.

ببراعة تلف أوغاوا الأمكنة بعاطفة غير تلك التي يجب أن تبعث عليها، وتصر على خلق هذا الارتباك الذي ما إن نشعر به، حتى لا تعود أفعال السيدة غير مبررة، كأن ترتاح لغرفة المرضى، أو تضيع مشاعرها منها في زحمة الإجراءات الروتينيّة، أو تتعلق بالطبيب المعالج أو تشمئز من طبق اليخنة باللحم الذي أعدّته هي!

عملت اليابانية يوكو أوغاوا لأجل خلق هذا التشويش، عملية تشبه "الدوزنة" الموسيقيّة غير المنضبطة عن قصد، أو كمايسترو تلاعبت بصدارة الآلات الموسيقية في مقطوعة ما، فمنحت الصدارة لصوت الآلات الموسيقيّة التي تعزف جملًا موسيقيّة ثانوية، فيما أعادت إلى الخلفية تلك التي تعزف الجملة الموسيقيّة الرئيسية للمقطوعة، ليحدث تشويشًا متعمّدًا في سمع الجمهور. هكذا منحت أوغاوا التفاصيل التي تبدو هامشية صدارة المشهد، فيما وضعت متن الأحداث في كثير من الأحيان على الهامش، لتعيد تشكيل وعينا بالأشياء، من ثم شعورنا حيالها، وحيال الكفّة التي لا ترجح دائمًا لما نفترض بأنه أهم وأثقل.

(كاتبة وشاعرة بحرينية)

عن صحيفة العربي الجديد

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم