يقولُ الفيلسوف الألماني كارل بوبر»إنَّ كلّ مُحاولةٍ لبناء الجنّة على الأرض قد أوصلتنا إلى الجحيم»، هذه المعادلة تنطبق على الحركات والتيارات المتطرّفة بصرف النظر عن وجود التباين في خلفياتها الفكرية أو الدينية، لأنَّ فرض التجانس القسري على المجتمع من خلال اللجوء إلى توظيف الشعارات الدينية والأيديولوجية يُخَلِّفُ الشعور بالإحباط لدى الإنسان ويقضي على العوامل التي تمُدّ الإنسانَ برغبة للحياة.يتّخذُ الروائي العراقي علي بدر من عمله الجديد «الكافرة»، مَدخَلاً لمُعالجة موضوع التطرّف الديني الذي قد أصبحَ معْضلةً فكرية وسلوكية تضع مجتمعاتنا أمام تحدّيات وجودية.

لم يختَرْ الكاتب مفردة الكافرة عنواناً لروايته عبثاً، بل هي من أكثر الكلمات تداولاً في مُعجم الجماعات المتطرّفة التي تلوحُ بها ضدّ مَن يتفهّم الدين بطريقة أخرى غير طريقتها، ويرى وجهاً مغايراً لرسالة الأديان. كما يمكن فهم قصدية الكاتب في جعل مفردة الكافرة بصيغتها المؤنّثة عنواناً بأنَّ المرأة في ظلّ الأنظمة التي تستند إلى أفكار متزمتة هي مَنْ تفقد أكثر من حرّيتها ومن حقوقها الإنسانية.

سبق لبدر أن قدّمَ مقارباتٍ لظاهرة المثقف المهووس بالغرب الذي يحاول تقمّص فيلسوف المذهب الوجودي سارتر. في روايته «باباسارتر» كما ينقلُ في رواية «الركض وراء الذئاب» صورة الثوار الحالمين وهم يحاربون النظام البعثي في العراق ولكن بعدما يفشل مشروعهم في بلدهم يتوجهون إلى أديس أبابا لمساندة ثوّار أفريقيا .

لا يبتعد صاحب «ماسينون في بغداد» من القضايا والثيمات الفكرية في مشتغله الروائي، إذ يصفُ الناقد فاضل ثامر أعمال علي بدر بأنها روايات ذهنية ورايات أطروحة تبحث عن مسألة فكرية داخل أنماط سرديّة. يقومُ بناء رواية (الكافرة) على سرد حياة شخصية فاطمة ومراقبة تحوّلاتها وهي شخصية مركزية تأخذ موقع الراوي، لذلك يهمين ضمير المتكلّم على أسلوب الحكي في معظم وحدات الرواية، من هنا تُصبٍحُ المادة المروية أقرب إلى فنّ السيرة الذاتية.

الحكايات الموازية

تتشابك قصة فاطمة مع قصص غيرها من الشخصيات التي تلتقي بها أو تشاركها الإقامة في مكان معيّن. فهي تستعيد حكاية أفراد أسرتها عندما تقف بجوار صديقها أدريان الذي يمرّ بحال الغيبوبة عقب تعرّضه لحادث سير. تتذكّر والدها وهو قد بادر بالإنضمام إلى المتشدّدين، بعدما وصل إلى طريق مسدود وفقد الأمل بتحسّن ظروف أسرته الإقتصادية.

وسرعان ما يتحوّل الأبُ إلى أحد زعماء المتطرّفين وتلاحظ فاطمة تغيّر أساليب تعامل والدها بحيث لاتجدُ فيه صدراً حنوناً بل يظهر بوجه أخر يطالب إبنته بأن تتنقب ينتقل بهم إلى ما يشبه مجمّع تقيم فيه أُسر المسلّحين.

هنا تركّز الراوية على واقع النساء اللاتي لا ملامح لهنَّ مختفيات تحت النقاب ولا يغادرن المكان الذي حُدِّد لَهُنَّ. وتصوّر مشهد إحتشاد الناس حول صديقتها جميلة التي يوسمها المتطرّفون بالكفر والفحش لذلك يُنفّذون عليها عقوبة الرجم بالحجارة على مرأى سكان القرية.

تهتزّ فاطمة لما تراه من مهرجان العنف والذبح، ولكنّ قُبح العنف لايمنعها من أن تكون معجبةً بصديقتها وهي بنظرها صرخة التحدّي ضدّ المتطرّفين.

من هنا تصبح مغرمة بلقب الكافرة، ولا تتوقف طقوس العنف والقتل عند فرض حدّ رجم النساء بل تطال آلة العنف كلّ كائن إنساني طالما يشتهي المسلَّحون القتل. وبذلك تسود حال من الإختناق والخمول كأنَّ الحياة صارت أمراً غير مرغوب فيه وكلّ مَن يحتفي بالحياة يُعتبر مارقاً يستحقّ الصلب والرجم.

العنف المُعاكس

تنحو الرواية منحىً مختلفاً وتبلغ وقائعها مرحلة التوتر الدرامي عندما يبوح رياض لزوجته فاطمة بأنَّه مكلَّف بتنفيذ عملية إنتحارية. هنا يقارن المتلقّي بين صورتين لرياض. في الصورة الأولى، هو شاب ذوقه أقرب إلى ذوق فنّان يُحبّ حياة هادئة، وفي الثانية يردّد ما لقّنه المتشدّدون من عاقبة مَنْ يُفَِجّر نفَسه بالعصاة وثوابه المتمثّل بإثنتين وسبعين حورية. هذا ينزل كصاعقة على فاطمة وبعد مقتل زوجها لاتريد أن تستسلم لتلك العقلية البطريركية.

تنتقل إلى بلجيكا وتستقرّ في مدينة بروكسل المعروفة بكوزمبوليّتها. تتعرّف فاطمة الى هويتها الجسدية في البيئة الجديدة وتتأمل نفسها وهي لا تصدّق صورتها المنعكسة في مرآة الشقّة، كما تصطدم بأنّ كلمة الحورية في بلجيكيا تُطلق على كائن نصفه سمك ونصفه الآخر إنسان، متوقعة لو أنَّ الناس في بلدها فهموا الكلمة بهذا المعنى ربما أحجموا عن تفجير أنفسهم. تنصت فاطمة لصوت رغباتها الحسّية، ولاتَكُفُّ عن التجربة في عالم الجسد وتختار إسماً جديداً لنفسها «صوفي»، منتقية إياه من إحدى الصحف البلجيكية كمحاولة الإنفصال عن هويتها السابقة. لكنّ التحوّل الأساس في حياة فاطمة يتمثل في لحظة لقائها بـ»أدريان» الذي يهتمّ الراوي بوصفه على المستوى الخارجي.

تعتقد صوفي بأنَّ الأشخاص الذين تعرّفت اليهم كانوا مَعْبَراً للوصول إلى أدريان غير أنّ ماضي الأخير سيظلّ زاوية مُعتمةَ بالنسبة إلى صوفي، ويتمّ إرجاء إضاءة حياة أدريان وكشف هويته إلى الصفحات الأخيرة عندما تكشف صديقته جذوره وتفاصيل حياة أسرته بلبنان وما حلّ بهم في الحرب الأهليه من الكارثة ورحلة والده للثأر من الطائفة التي ينتمي إليها المسلّحون الذين أبادوا أسرته وقتلوا شقيقته الصغيرة إلى أن يفي بعهده بإبادة أسرة فلسطينية ماعدا فتاة صغيرة منها.

يفضل أدريان البحث عن هذه الفتاة والزواج بها لطيّ صفحة الثأر. هذه الرواية سرد لواقع ينفرُ منه كلُّ مَن يريدُ تذوّق الحياة بعيداً من الإكراهات السلطوية وتوثيق لمرحلة تارخية إنتكس فيها خطابُ العقل وسادت فيها الغوغائية. وبذلك يكون الكاتب مساهماً في إنشاء وعي جديد بخطورة الإنسدادات الفكرية التي توفّر أرضية مواتية لظهور المتطرّفين.

عن صحيفة الجمهورية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم