يقدّم الروائي خليل الرز ملمحاً متفرِّداً في الرواية السورية؛ ففي روايته الجديدة «بالتساوي» (دار الآداب، بيروت) يستأنف خليل الرز تجربته، مع التخفّف إلى حَدّ كبير من السرد الإخباري المعهود. هي رواية عن صديقين، يهرب أحدهما من بيت أهله في ليلة زفافه المنتظَر، ليعيش قصة حبّ غريبة تجاه امرأة تعمل في أحد الكباريهات. لكن الرواية ليست هنا في هذه الحدوتة البسيطة. ومن المتوقّع ألا يجد المتلقي اللاهث وراء الحدث ضالّته فيها. لنقل إنها رواية عن صديقين يعيشان حياةً ملؤها الرتابة، حياة لا يحدث فيها شيء جديد مهما كان قليل الشأن.، ذلك- بلا شكّ- يجعل الأمر أكثر صعوبة، ويدنينا من معنى كلام الكاتب في حوارٍ سابقٍ: «أنا في النهاية كاتبٌ غير مُسَلٍّ أبداً، ولا أصلح لقراءتي في نصف الساعة الأخيرة قبل النوم».

يشتغل (الرزّ) على مشروع لا يشهد انقطاعات فنية، بقدر ما يبني تراكماً وعمارة فنية خاصّين به. وقد يستغرب قارئ رواية «بالتساوي» ذلك المزج بين الأمكنة؛ كأن تصل شخصية في الرواية إلى «ساحة النجمة» في مدينة دمشق، ثم تنعطف يميناً إلى «شارع بارون» في مدينة حلب. وقد نقول إن مركَزَيْ مدينَتيْ دمشق وحلب يتشابهان إلى حدّ يبدو المزج بينهما مشروعاً وسهلاً، مثلما قد تتشابه البرجوازية التجارية الشامية ونظيرتها الحلبية إلى حَدّ يبيح للكاتب تجهيل ملامح شخصيته «عبد الهادي»، فالأخير الذي تبدأ به الرواية بوصفه ابناً لتاجر في سوق الحميدية في دمشق سرعان ما يتنقّل في ملاهي مدينة حلب ومواخيرها كأنه ابن لتاجرٍ فيها. عبد الهادي، الهارب من زفاف تقليدي مُدَبَّر منذ كان صغيراً، بعيد أيضاً من الصورة النمطية لأبناء الأثرياء، ربما باستثناء خصلة واحدة هي تقاعسه عن فعل أيّ شيء. حتّى في علاقته بالجنس الآخر يحطّم الصورة المتوقَّعة عن الابن الثري اللاهي، إذ يكتفي بترصُّد النساء وملاحقتهن من بعيد. الاشتهاء بمعناه المعروف يكاد يكون مفقوداً أيضاً، فالنساء اللواتي يتلصّص عليهن لسن صاحبات أنوثة عارمة أو ملحوظة. هنّ يبتعدن أيضاً عن الصورة النمطيّة للأنوثة، ويصعب الجزم بأنهن منكسرات أو فاقدات لها، بقدر ما يمكن الجزم بأن اشتغال الكاتب على عوالمهن الداخلية قد حطّم أنوثتهن، «بالتساوي» مع تحطيمه لعالم الذكورة المتعلِّق بهن.

كان من المفترض لعبد الهادي أن يدرس الصيدلة، وأن يتزوج بديعة وفق رغبات أبيه، لكنه فشل في دراسته، ودرست بديعة الصيدلة، كأن العروس المنتظرة كانت تتقمَّص ما يجب أن يكون عليه رجلها.

إذاً، لا شيء يحدث في حيوات مملّة ورتيبة، وذلك لا يمنع دواخل الشخصيات من الفعل، فشخصيات الرواية جميعاً تشترك في سيطرة الهواجس عليها، كأن الفقر الخارجي ينعكس تضخُّماً مُبالَغاً فيه في فعّاليتها الجوّانية. هي شخصيات مرتابة وشكّاكة وغير واثقة من نفسها ومن الآخرين. ولأنها كذلك، تدور في حلقة من التهويم يصعب معها الفصل بين الواقع والمتخيَّل، كما يصعب التكهُّن بردود أفعالها عندما تُختَبر في مواجهة ما. هكذا، ببساطة يمكن لسميع إعداد سيناريو لقائه بحبيبة سابقة، تواعده بعد انقطاع دام عشرين عاماً، سيتخيَّل كيف أنه سيطردها من حياته لئلا تخلخل سكينته، وتؤثر في مستقبله الوظيفي، وعلى الرغم من أنه سيلتقي امرأة فَعَلَ بها الزمن ما فَعَل خلال عشرين عاماً، وهي متزوجة فوق ذلك، إلا أنه سيبادر إلى طلب الزواج منها.

ربما يكون الكاتب قد استمدَّ عنوان روايته «بالتساوي» من القسمة التي تسير بها الرواية بين الصديقين عبد الهادي، وسميع، إلا أن العنوان يصحّ أيضاً عن عوالم شخصيات الرواية، الداخلية منها والخارجية، فهناك مساواة بين ما حدث وما لم يحدث. العالم الخارجي في الرواية مبتذَلٌ بالقدر الذي نرى فيه ابتذال العوالم الداخلية للشخصيات، ليست النفوس فحسب، بل الأجساد أيضاً المترهِّلة بفعل الزمن أحياناً، وبفعل العطالة غالباً، فلا أنوثة ولا ذكورة مُغرِيتان فيها.

هذا النوع من الكتابة لا يحتمل الاعتباطية في اللغة، ولا يصعب على القارئ تقدير انهماك الكاتب في «تشذيب» النصّ وضبطه، لئلّا يقع في الثرثرة. وربما يكون هذا الاهتمام الزائد قد أدّى إلى تشابه في المنطوق القليل للشخصيات، أو في طريقتها في التعبير عن هواجسها. الرهان الأصل لخليل الرز هو تقديم متعة نصّيّة للقارئ، متعة مغايرة لما يعرفه، على هذا الصعيد يمكن القول إن القارئ يكسب الرهان.

عن مجلة الدوحة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم