الرواية هي الجنس الأدبي الأكثرُ إنفتاحاً على الإشكاليات كافة. فمرونتها في توظيف وهضم الأجناس الأدبية الأخرى زادتها إمكانية لإستيعاب شتّى الموضوعات.منذ أن بدأ هذا النوع الأدبي بالتطوّر في العالم العربي، وتناول المسائل المرتبطة بالإنسان وهمومه، أصبح موضوع العلاقة مع الآخر المختلف حضارياً، وخصوصاً الآخر الغربي محوراً في تضاعف المرويات السردية العربية.

ونحن نتحدثُ عن صورة الآخر نذكرُ على سبيل المثال لا الحصر عناوين عدّة، منها «الحيّ اللاتيني» لسهيل إدريس، «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، «موسم الهجرة إلى الشمال» للكاتب طيب الصالح، «شيكاغو» للروائي علاء الأسواني. ويمكن إضافة النصوص السردية التي عالجت الحملة الكولونيالية الحديثة المتمثّلة باحتلال العراق عام 2003.

ترصد واقع المغتربين

«سان دني» رواية للكاتب التونسي علي مصباح المقيم في ألمانيا وهي موزّعة على 35 قسماً. كلّ قسم معنون بإسم إحدى مناطق باريس أو إحدى شخصيات الرواية. كما توجد أقسام اختار لها المؤلف أوصافاً للحالات النفسية لدى الانسان أو المفردات الملازمة بشخصية معيّنة.

ينضمّ هذا العمل إلى الأعمال التي تترصد واقع المغتربين ورؤية الآخر للوافد الشرقي، من دون أن يشعر المتلقي بوجود خلفية فكرية أيدولوجية مسبقة تتحكم بطريقة معالجة الكاتب لهذا الموضوع. بل إنّ الكاتب يحاول أن يكون متوازناً في إضاءة كلّ الزوايا المتعلّقة بالمسرح الذي تتحرك عليه الشخصيات. كما يقدم صورة الغرب المتخيل في ذهنية الإنسان الشرقي.

على أجنحة الأحلام

تدور رواية «سان دني» حول موضوع هجرة الشباب الذين لا يتسع الوطن لأحلامهم وحيث أفق الحرية أضيق من أن يلبي تطلعاتهم، لذلك يختارون مكاناً أخر ويبحثون فيه عن الفرص التى يعوّلون عليها لإعادة بناء ذواتهم.

إذ يتخيلون بأنَّ عالماً عامراً بالبهجة والحبور ينتظرهم وراء البحار، يجدون فيه كلَّ ما ترغب فيه أرواحهم المتمردة. يجمع صاحب (حارة السفهاء) في عمله حكايات مجموعة من الشخصيات التي تتباين إهتماماتها والغايات التي تحدو بها لعبور المُحيط بحيث ترى كلّ حكاية كوحدة مستقلّة.

هناك مَن يبلغ به السخط على الوطن إلى درجة لا ينعته إلّا بِحُفرة نتنة، ويريد نسيان ما يذكره بما ذاقه من قسوة سلطة الأب وماعاش فيه من حالة الإختناق النفسي وغياب دفء وحنان الأُسرة.

هذا ما تراه في شخصية علي الذي يستقرّ في سان دني. حال النفور ومحاولة تعطيل الذاكرة الوطنية تشملُ عادل الذي يقوم بوظيفة السرد بأسلوب بانورامي، فهو على ظهر السفينة التي تقلّه مع رفاقه الى مارسيليا، يلقي بفردة حذائه إلى البحر معلناً بذلك انفصاله التام عن الوطن.

المعاناة

كان عادل طالباً متفوّقاً لم يتوقّف أساتذته الفرنسيون عن تذكيره بأنّ مكانه ليس تونس لذلك هو يريد الالتحاق بالسوربون واكتساب موقع علميّ ومعرفيّ. لكن ما أن يصل إلى باريس حتى يكتشف حجم المعاناة التي ينغمس فيها بدلاً من الملذات المتخيلة التي قد غذّت أدمغتهم.

رشيد بوراس الذي تعرّف اليه الراوي في المبيت الداخلي يريد أن يُصفي حساباته مع ماضيه المؤلم المليء بصوَر الإهانة والإذلال، يتنقل بين بارات باريس ويمتهن أعمالاً مشبوهة، يقتنص الصبايا اللاتي يصلن إلى العاصمة في محطّات القطار، فهو لا يرحم ضحاياه ويتمادى في قهرهم وإستخدامهم كسلع لجني الأموال. وجوزفين هي إحدى ضحايا رشيد تريد أن تهرب وتستنجد بعادل ليجد لها مخرجاً من مأزقها.

تعويض الحرمان

العرفاوي يبحث في باريس عمّا يعوّض حرمانه في مرحلة الطفولة ويحاول أن يوفّر لأمّه حياة لا تخلو من الرفاهية حتى ولو تقدّم بها السنّ.على رغم أنّ المتلقّي قد يعتبر بأنّ العرفاوي شخصية غير سوية لاسيما وهو متورّط في أعمال مشبوهة غير أنّ الجانب الذي نكتشفه في العرفاوي وهو يتحدّث بالحميمية والإخلاص عن أمه التي قد تفانت في الإهتمام بابنها يقنعنا بأنّ الإنسان كائن يتأرجح بين الخير والشرّ. وهذا يذكّرنا بشخصية راسكولينكوف في «الجريمة والعقاب»، فيريدُ بطل رواية دويستويفسكى أن يقتل الرابية لينقذ سونيا من الوقوع في عالم يسلب منها براءتها.

وتمثّل فرانسواز الجانب الإنساني من المجتمع الفرنسي وهي تهتمّ بالمهجرين الذين يعانون حالة الاكتئاب والعصاب بعد إحتكاكهم مع واقع جديد، وهي تواجه صعوبات كثيرة ومشكلات معقّدة في تعاملها مع أشخاص مثل علي الذي يريد أحياناً التخلّص من مكبوتاته من خلال ممارسة العنف ضدّ الآخر.

في المقابل توجد نماذج مغايرة لشخصية فرانسواز، هنا نذكر آن ماري التي تتخلّى عن عادل وتصفه بالواهم بعدما يعود صديقها من هولندا. إلى جانب ذلك يرسم أنماط الحياة في مدينة باريس ويلمح إلى ما يفرضه المجتمع الصناعي من الإلتزامات بحيثُ تظهر المدينة بصورة مصنع كبير لا يعيش فيه الإنسان إلّا ككائن ذي بعد واحد على حدِّ تعبير (ماركوز).

قوقعة آيديولوجية

ينتقل المهاجرون إلى باريس محمَّلين بأفكارهم الثورية ولم يتخلّوا عن مشروعهم، بل يريدون أن تكون إنطلاقتهم من باريس لتغيير النظام في بلدهم، ويساندون الحركات الطلابية من خلال كشف ما تنتهجه الحكومة التونسية من السياسة التعسفية. يردّدون بأنْ لا مُجاهد أكبر إلّا الشعب. غير أنّ ثمّة رفاق يحيدون عن النهج المتشدِّد ويأبون الالتزام بإجراءات حزبية صارمة إلى أن يحدث الشرخ بينهم ويوصم من يكون معترضاً على الحياة الحزبية بالميوعة.

يبدأ التصدّع عندما يتنبه بعضهم إلى أنّ مَن يساندونهم ويعتمدون عليهم لإنجاز ثورتهم لايفهمون المنشورات الثورية، بل أحياناً يشيحون بوجههم عنها. وبذلك يتناثر الرفاق على المقاهي والحانات.

وتندر لقاءاتهم بل لا يتحمّلون بعضهم البعض. تتميّز رواية «سان دني» بإيقاع صاخب وهذا العمل حافل بالشخصيات، بل يمكن اعتباره رواية «الشخصية» ولا يتعاظم دور شخصيّة على أخرى، بل على الرغم من وجود الخلافات في التفكير والأمزجة، يجمعها خط واحد وهو البحث عن وجه آخر للحياة ويتأكد هذا الجانب لدى شخصية المولدي الذى يجد في السخرية والرحلة سلاحاً ناجعاً لمعالجة همومه.

كما يحذّر أصدقاءه بأنَّ تشدّدهم وتقديسهم لرموز يسارية ستنجم عنه ارتدادات معاكسة. ويسمع المتلقي أفكار الكاتب علي مصباح على لسان الموليدي وهو ينصح أصدقاءه بالتحوّل إلى قراءة نيتشة، ودوركهايهم، يعتقد بأنّ رؤوس المؤدلجين تحتاج إلى فأس نيشتة لتحطيم الأصنام القابعة فيها.

نوستالجيا المكان

مع أنَّ باريس هي حاضنة مكانية تجمع معظم شخصيات الرواية في إطارها، لكنّ صورة تونس ومكان المنْشأ من خلال ملفوظات ومفردات مشحونة بالحنين لا تغيب في الفضاء المكاني فتحضر الأمكنة التي يتوافد منها المهاجرون بجانب الحيّ اللاتينى، الحيّ الجامعي، شانزيلزي. لأنَّ المكان الذي يذخر بذكريات الطفولة لا يفارقك بل يظلّ بما يحمله من الصور قاراً في تجاويف مشاعرك ووجدانك. لذلك يحاولُ علي أن يستعيد علاقته بتونس من خلال فاطمة ويفكر في الإقامة بالجزائر مجاوراً للوطن.

كما أنَّ عقبة يعود إلى تونس فالراوي بدوره يجد بأنْ لا خيار أمامه سوى أن يبحث عن ذاته في تونس بعدما تبخّرت الأحلام ولم يعد هناك ما يقنعه بالبقاء في باريس. وبذلك لا يختلف مصير عادل عن مصير شخصية إسماعيل في رواية «قنديل أم هاشم» أو مصير مصطفى في رواية «موسم الهجرة الى الشمال».

عن صحيفة الجمهورية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم