يشيد شربل داغر في روايته "شهوة الترجمان" بناءه الروائي على فذلكة فكرية، ركيزتها العلاقة بين الترجمة كاحتكاك بين لغتين ومكوّنين اجتماعيين، وبين جسدين في احتكاكهما فاعلاً ومنفعلاً، ومدى انسجامهما أو انفكاكهما، كنص تعطيه نوعية الترجمة ودقتها تكوينه الجمالي الممتلئ والمكتنز.

هذا ما عبّرت عنه كريستين التلميذة، التي تبدو متمسكة بعلاقتها المثلية وراغبة في ذكورية الأستاذ الترجمان، ويبرز تعبيرها بشكل واضح منحى عاماً في المجتمعات الغربية الى الجنس المثلي، كترجمة مفتعلة للتعبير عن الذات، الذي لم يبلغ مداه في الثورة الجنسية في ستينات القرن الماضي وسبعيناته. الحال الجديدة تبدو ترجمة لفكرة الإشباع الجنسي، لكن لم تؤدِّ أغراضها ولم تفِ حاجاتها على رغم تطرفها آنذاك. كريستين البضة، لا تكبح نفسها عن علاقتها بالاستاذ، وإن كانت ركيزتها بلوبيز أكثر عمقاً، كأنها تختبر العلاقة السوية بعد علاقة شاذة، هذه وجهة نظر، أما هي فترى علاقتها بلوبيز هي الطبيعية، وعلاقتها بالأستاذ للتفكهة، تحقيقاً لنزوة في ليلة واحدة لم تتكرر. جسدت كريستين ثنائية العلاقة بين الترجمة والجسد بقولها للاستاذ "أتعرف ان لك دوراً في حياتي لا يقل عن دور لوبيز نفسها. لعلك تعرف من دون شك ان ما تقوله انت عن التداخل والالتباس بين الترجمان والمؤلف في شخصه، في عمله، لا يعدو كونه صيغة اخرى لتناول جديد، مفاجئ، لمسألة الترجمة، بوصفها مسألة في الهوية. لوبيز تتحدث عن التباس الذكوري والنسوي في جسد كل واحد منا، وأنت تتحدث عن التباس العلاقة الكتابية في الترجمة بين نقلها وتأليفها بالأحرى... أتعرف أن خطاب الترجمة "الأمينة" يصدر عن خطاب الهوية الثابتة، إذ يتطلب وجود أصل، فيما الآخر يبقى "دونياً" ولو أتى موافقاً؟ أتعرف أن الحديث عن "الخيانة" في الترجمة يشبه الحديث عن "الخيانة" في ما يطلبه الذكر من المرأة؟ الذكر حاكم أبداً، أينما كان، وسلطته المتمادية تحتاج الى تفكيك". الرواية التي تشبه السيرة، تقوم على فكرة نمطية، هي حياة الرجل الشرقي في المجتمعات الغربية، والنمط متقارب سواء أكان أستاذاً أم تلميذاً أم عاملاً أم صعلوكاً. التوليفة نفسها تعبُر في سياقات منتظمة. أستاذ الترجمة المتعاقد مع جامعة ستراسبور يسير في نسق علاقات الآخرين. تقحم دانييلا الالمانية نفسها عليه، تبيّن لاحقاً أنها راهبة استساغت العلاقة بالرجال على العلاقة بالمسيح، فتسيّره في علاقة، كما تريدها، بطقوسها الجنسية، قبل أن يحاول أن يعدل إرضاء لذكورية شرقية. تدخل فيه كريستين الفرنسية كتجربة تغيير عن علاقتها السحاقية، ويشتهي فضيلة التونسية فتوارب، كأن المرأة الشرقية تبقى هي نفسها في الغرب، تراوغ بين المستحب والمحرّم. أما نيرا ابنة البروفسور، فهل هي صديقة؟ علاقات الترجمان كأنها أسقطت من قصة "ألف ليلة وليلة"، لكن بطلتها ليست شهرذاد بل أليس، راعية الماعز في جوار أرز تنورين، وهي قصة عشق محرّم أودى بأستاذ الآداب والآثار الذي خلفه الترجمان، في مكتبه، بعد وفاته، واكتشف بين أوراقه انه مات مخدوعاً، مفترضاً أنه قتل رجلاً في جوار تنورين. تبدو حبكة الخديعة التي حبكها الخوري البروفسور أمتن من حبكة الرواية نفسها، اذا افترضنا أن الأولى تفضي الى الثانية. فحين تحلّ عقدة الخديعة تحلّ عقدة القتل الذي لم يحصل، وبدلاً من أن يكون البروفسور متهماً بالقتل، يصبح مطلوباً تكريمه. يعتمد داغر على التقنية السردية التقليدية في تسلسل الوقائع زمانياً، لكنه ينوّع أسلوبه أحياناً باعتماد تقنية تيار الوعي الذي يعيدنا بالحوادث الى زمان ومكان ماضيين. 350 صفحة تمتعكَ بتداخل حوادثها وبفواصل من شهوة تؤدي الى فعل وممارسة يبقيان في حدود المسموح به في الروايات الكلاسيكية، مع حبة فلفل مضافة تنكِّه المشهد من دون أن تبالغ في المشهدية الجنسية. إنه السهل الممتع في الوصف، تقابله رتابة في السرد أحياناً، وخصوصاً عندما ينقطع السرد القصصي لمصلحة الحديث عن الترجمان غالان، مترجم حكاية "ألف ليلة وليلة" الى الفرنسية. لا أريد أن أحمِّل الشخصية الشرقية تبعات الشخصية المترددة التي لا تستقر على قرار ولا تحسم أمرها بسهولة ومنطق، وهي الشخصية التي بدا عليها الراوي في أكثر المواقف التي واجهته، وخصوصاً في علاقاته بالنساء، وها هو يردد في نفسه: "كيف أتردد دوماً في أكثر من مرة ولا ألبث أن أنقاد اليه؟ كيف أرفض اللقاء بدانييلا، أو دعوتها واستضافتها لي ستة ايام في فيينا، ثم أنقاد وراء ذلك مثل طفل مطيع أو مراهق مكبوت؟ ذلك ان غير أمر في حياتي، لا أختاره بنفسي، لا أقرره، بل أنساق اليه، من دون علمي مثل من تقوده أمه أو والده الى حيث يشاء هذه أو ذلك. أيعود هذا الى تربيتي العائلية أم يعود الى كوني مترجماً؟ الا أكون اخترت الترجمة إلا لكونها توافق هذا النوع من التربية أم أن هذه التربية هي التي قادتني الى الترجمة؟ أهذا ما يفسِّر حذري الدائم... أسئلة كثيرة مربكة، لكنني أطرحها للمرة الاولى. ألا يعني هذا أن الاقامة الجديدة بعيداً عن اهلي، وحدي، هي التي تمكنني من دون شك من طرح هذه الاحتمالات، وربما من معايشتها؟". بدوري أطرح السؤال: الشخصية المربكة، هل هي "شخصية العصر المعولمة" وليست الشخصية الشرقية، أم شخصية الترجمان؟

عن صحيفة النهار

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم