«وطني هو إعاقتي الأبدية التي لن أشفى منها أبداً» كاليسكا أن يجعلك كاتب ما تفتح فاهك على آخره دهشة وتقول حين تقرأ شخصية ما في عمله «هذا أنا»، يكتبك كما لو أنك تكتب ذاتك، بل أكثر مما قد تفعل أنت، يصورها بكل تقلّباتها وصراعاتها وعذاباتها، يختصر أجيالاً ومعاناة وألما، ناصر الظفيري في روايته «كاليسكا» وهي الرّواية الثانية في ثلاثية الجهراء الصادرة مؤخراً عن دار مسعى للنشر والتوزيع – البحرين- يفعل ذلك ويقدّم رواية جديرة به أولاً وجديرة بالمعاناة التي تلازم كل مضطهد ومهمّش ومشرّد. «أمي طائرة، ليس لي اسم ولا أعرف من سأكون أو ماذا سأكون ولم يعد يهمني كل هذا، سحقاً لكل شيء» – كاليسكا. هكذا ببساطة يطرح الكاتب التساؤل الأعقد والعصي على الإجابة، كيف لإنسان أن يولد أكثر من مرّة وتمنحه الظّروف في كل مرة اسماً لا علاقة له به، وجوازاً مزوّراً يعبّر به نحو ما يعتقد أنّه الخلاص، وما هو إلاّ فخّ لصراع داخلي يركلك نحو خسارة تعادل خسارة وطن! يتناول الظفيري هذه الفكرة بذكاء شديد ينتشله من البيان والخطابة المباشرة، حتى في عنوان الرواية «كاليسكا القيّوط يطارد غزالاً» نرى أنّه لا يلتصق بشخصية الفتاة «كاليسكا»، بل إن هناك قيّوطاً فعلاً يطارد غزالاً الذي يكونه البطل «العوّاد» مرة ومرة يكون قيّوطاً ليصطاد المحرّك الأبرز في أحداث الرواية العقيد «اليزّاز». ما يعتمد عليه الكاتب هنا هو منهج تفريغ الذّاكرة التي سيطرت وتسيطر عليه حتى الآن، وكان حريصاً على تأريخها أكثر من توثيق تاريخ، من خلال اختزال الحدث داخلها، فلن يستطيع أي قارئ أن ينجو من ربطها بواقعه، وإن كانت بعيدة عنه لأنها تطرق وعيه على العبث الذي تقوم به أجهزة الأمن الفاسدة التي يوظفها البعض لمصالحه الشّخصية وإشكالات الهوية والانتماء إضافة إلى الحب والغفران والانتقام. «دخلا إلى مكان منخفض واختفى النّهر خلف أشجار الدردار والقيقب والقضبان بجذوعه البيضاء والصنوبر الأبيض القديم قدم النّهر. ويفصله بين الطريق المعبدة والأشجار العملاقة شجيرات التوت البري القصيرة، وبعض شجيرات الورد الأبيض والوردي منحت المكان رائحة فاتنة ينقلها النّسيم المشبّع بخلايا الماء» – كاليسكا. يقدّم الكاتب في عمله هذا رواية بصرية ومشهدا بصريا، وهذا يحسب له ككاتب استطاع أن يضع تقنياته بموازاة تقنيات الصورة المرئية، بمعنى أنك تشعر وأنت تقرأ بأنك ترى الحدث والأشخاص والديكور والاضاءة، وتكاد تسمع موسيقى تصويرية للمشهد من خلال آلة العود أو موسيقى الطّبيعة، فكل أدوات المشهد الحدث تتحرك أمامك وتكاد تلمسها من فرط حقيقتها، تتمنى لو أنّك ضمن سياق الحدث فتركب باص 103 وهنا لا يكون مجرد رحلة تحمل هذا الرّقم بقدر ما هي زمن احتفظ بأحلام وبراءة جيل بأكمله، تتمنى لو أنّ هناك «بيت الفن» لتذهب وتحضر أمسية يُعزف بها الفن الحقيقي على آلة العود، وهذا يخلق لدى القارئ إحساسا بفنية النسق الروائي لدى الظفيري وقدرته على التعبير بالطاقة نفسها التي تمثل النسق السينمائي، الذي يواجه تشكيل المعنى أو الدّلالة المتوارية، وجعله فاعلاً في رسم الصورة ذهنيّاً، وبذلك نرى أنّ الظفيري نجح في مزج فعالية الصورة وتركيب النّص، إضافة إلى التنظيم الدّاخلي الذي اتخذه في نصّه الرّوائي، فيلاحظ القارئ الخطاب السردي الذي حمل مفارقات زمنية كتقديم وتأخير الزمن، حسب رؤية الكاتب الخاصّة، فكان ثمّة استباقات في بداية الرّواية وبعض الاسترجاعات لزمن ما خلالها. لكن هذا لم يؤثّر سلباً على الفكرة أو نسق الحدث، وجاء متّسقاً مع الحبكة، وهنا يتمثل ما يمكننا تسميته بـ»السينما الورقية» حين تتحرك الكاميرا لترينا لقطة من زمن معين ثم باللّحظة ذاتها تعيدنا إلى زمن الحكاية من دون إرباك المتلقي وهذا ما فعله الظفيري تماماً. «لماذا لا تطبّق قانونك على هذا الرّجل؟ أليس هذا ابن حلاّق الخرفان في جنوب العراق» – كاليسكا. «ألقاب متوارثة عن جدّ توفي منذ زمن، ألقاب اكتسبوها من صنعة قديمة أو أحدثتها الضّرورة، وألقاب أوحت بها عاهاتهم» – كاليسكا. ثمة طرح هادئ وذكي يستخدمه الكاتب مع قضية «البدون»، ربما هو الهدوء الذي يسبق العاصفة فلا نعلم كيف سيتناول هذه القضية (قضية الانتماء ونفي الآخر سياسياً واجتماعيا وإنسانيا إلى جانب قضية الوطن والمواطنة ) في عمله المقبل. هذه رواية تجعلك تلهث وراء الحدث بشغف ووراء الحب بشغف أكبر ثم وبحرفية سردية متقنة يجعلك تحبس أنفاسك في المشهد الأخير وتبكي. لكن يبقى هناك تساؤل يتركه ناصر الظفيري في نفس القارئ وهو، هل يستطيع الانتقام أن يخمد أي جذوة غفران في النّفس؟ وهل الحقد يغلب الحب الذي كان أقوى من أقبية السجون والتعذيب؟ ربّما يجد القارئ إجابة على ذلك لكنه بالتأكيد سيكتشف أن شخصيات الرّواية التي تحقق الانتصار لم تنتصر، فكل شخصية هي خاسرة وتجرّعت الهزيمة بشكل ما! «تظن أنها معركة وأنك ربّما تكسبها ولكنها ليست معركة باحتمالين إنها هزيمة، هزيمة فقط» – كاليسكا. كاتبة كويتية تهاني فجر

عن صحيفة القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم