(1) "أيها الأصدقاء يصعب هنا وضع فاصل بين الأدب والسياسة وأنا كاتب لا يتفرج علي الحياة بل يلتحم فيها والوطن عندي ليست حقيبة ولكن جبلا وسهلا " محمود درويش .

رواية مسيح دارفور صدرت في العام 2012 عن مؤسسة هنداوي وهي رواية من الحجم المتوسط ب 115 صفحة وكاتبها هو الروائي السوداني عبدالعزيز بركة ساكن وبركة ساكن كذلك كاتب منحاز, إنحاز إلى جرح شعبه المقاوم في ماضيه وحاضره وسينحاز إن كان في المستقبل جروح , قطعا لا يعرف الحياد , ونجد في أعماله وراء الجمال الادبي قيم إنسانية تعالج في الواقع أشياء وتترك أثرا واضحا وهذا النوع من الأدب بقدر ما يحرص علي الجمال الأدبي فهو يحرص أشد الحرص على القيمة الإنسانية للأدب وليس كالأدب الذي كتبه أصحابة للتسلية وقضاء الوقت بل الأدب في ميزان بركة ساكن هو موقف عميق يعيشه الكاتب ويعبرعنه ويدعو إليه وكما يقول الناقد الكبير رجاء النقاش عن الفرنسي جون بول سارتر " إن الكاتب الحقيقي يتحمل مسؤولية كلماته ويتحمل مسؤولية الصمت إذا كانت هنالك قضية تحتاج من يدافع عنها.. وتكون المسؤولية أكبر إن هرب الكاتب ووقف موقفا سلبيا وهذا هو موقف كاتب النص في هذا العمل والأعمال الأخرى لايقف متفرجا .

في النص مجموعة من القصص لأشخاص مختلفين , أصدقاء , أعداء , وآخرين تتقاطع بحكم الظروف عند الحرب فتشتعل وتتجه جميعها نحو الموكب موكب المسيح بحثا عن سلام ربما لا يوجد إلا في السماء.

(2)

إبراهيم خضر إحدى الشخصيات الرئيسية في العمل قادته المقادير ليقع في أيدي التجنيد الإجباري ,هي نفس المقادير في التاريخ السحيق التي أوقعت جده بخيت ذو الحظ العاثر وابنته بخيتة في يوم ميلادها في يد صائدو البشر النخاسون , وأنجبت بخيتة التومة الجدة المباشرة لإبراهيم خضر إلى أن جاءت التاية إلى الدنيا من سلالة بخيت كل ذلك في تسلسل عجيب اجاده النص , قادتة الأقدار في عبث إلى عمق الحرب الدائرة في إقليم دارفور ومنزل العمة خريفية وقبل ذلك جعلت عينيه دون غيره أن تلتقي مع عيني الأستاذ المعلم محمود محمد طه في لحظة الإعدام ليكون شاهدا علي كيف تموت الملائكة وتصعد إلى السماء , إلى أن إنتهت به الظروف من غير إرادة منه في موكب المسيح , مسيح دارفور , مستخدما شخصية إبراهيم خضر وتاريخها ومصادفاتها يغوص النص في التاريخ البائس للرق وكيف يجد شخص آمن في سربه ويعبد مجموعة الآلهه يجد نفسه فجاءة يطلق عليه لفظ "عبد " ؟ هل خذلته تلك الآلهة ؟ هل هي مؤامرة سماوية ؟ هل كان ظلم بني الإنسان ؟ " ويقول النص " تم عرضهم أولا لممثل الحكومة فهو المسئول الرئيسي عن الرق فمن حقه أن يشتري ما يشاء بالسعر الذي يضعه لأن كل الرقيق يعتبرون في الأصل ملكا للحكومة " هل كانت الحكومة أكبر سوق للنخاسة ؟ سؤال يطرأ فجاءة , صور النص دخول الإنجليز والحرية وكيف حاول ما يدعون أنفسهم أسياد يذكروهم " كيف أعاد المهدي رضي الله عنه العبيد بعد أن حررتهم التركية؟ " كيف يبكي الشخص خوفا من الحرية؟ صورة تجدها في النص , وكيف أرسل قادة المجتمع في ذلك الزمان علي المرغني والشريف الهندي وعبدالرحمن المهدي مذكرة يطالبون الحكومة الإنجليزية بالنظر في الحرية الممنوحة للسودانين ؟ أهم قادة مدنيون أم كانو نخاسون ؟ سؤال يجعل القارئ يعيد النظر في كثير من الرموز المسماة وطنية , علي كل حال كانت التومة جدة إبراهيم خضر واحده من هؤلاء القلائل التي تعي معني الحرية , ربما ذلك الجين هو الذي دفع إبراهيم خضر لأن يعي وضعه الإجتماعي ويبحث وينقب في دار الوثائق التاريخية بالجامعة ويقول في النص ذلك " كان لفترة طويلة وخلال دراستة ينقب في دار الوثائق القومية والمجلات الدورية الرصينة وهو لايحمل نفسه أو أبويه أو جدوده أي مسؤولية كان النظام المتخلف في ذلك الوقت يقوم على سيطرة القوي وكانت أسر جدوده من الضعفاء وهذا أوقعهم في يد من لا يرحم وبطش دولة دخلها الأساسي من أثمان مواطنيها في أسواق النخاسة العالمية والمحلية عصر فيه الدولة هي تاجر الرقيق الأعظم لذلك كان إبراهيم خضر يكره السلطنة الزرقاء ويعتبرها أساس إشكالات الهوية في السودان" إبراهيم خضر شخص ناضج مدرك لماضيه وحاضره ولا يعنيه في شئ واخذته أقداره إلى دارفور في معية شكيري توتو كوو الذي رمته الأقدار في نفس الإتجاه ودارت أسئلة لاحقا في رأسه عن إبراهيم خضر وهم يزحفون علي الرمل البارد في إحدى المهمات العسكرية , من هو السيد ؟ وما علاقة الزوج بالسيد ؟ بل كيف صاد النخاسون جدوده الأولين ؟ ولماذا لم يهربوا ؟ هل قاوموا كثيرا ؟ بل من النخاسة , هل هم سودانيون كذلك ؟ وتخيل أنه مملوك لسيد يمارس الجنس مع أمه ؟

(3)

قرية خربتي الجبل ترقد وادعة وهادئة علي المصب الصخري لجبل مرة , يحلم سكانها أحلام عادية وهم شركاء في الماء والكلأ والنار وهنا لابد للإشارة للنص ملئ بالطاقة الجمالية والتي قد تطقي عليها الرسالة الإنسانية القوية والتصوير الفني وقرية خربتي جزء من ذلك الجمال , كيف كانت تنوم في أمان المانجو وإن تركت وشأنها كانت لتغذي العالم كله بالمانجو وكيف أن أهلها يتعايشوا مع الأعراب في أمان , صور النص هذا التعايش بين أهل خربتي وعرب بني حسين لحظة دخول الضيف " تدبرو إكرام أمر إكرام الضيف سريعا , الطعام وفير في هذا الصيف " ” الجميع متواجدون في ديوان الشيخ أدم كويا يؤدون الصلاة , ويقيمون المآتم والأفراح ويتبادلون الآراء ويحددون سعر المانجو " هذه هي الحياة علي سفح الجبل"

وعندما طلب الأعراب أرض للزراعة من أهل خربتي يصور النص ذلك " تحدث أكبر الأعراب سنا وكان حكيما ومرحا في ذات الوقت عن أخلاق أهل خربتي في الملمات والمصائب " وكيف أن أهل خربتي أعانوهم في سنين الجفاف في السابق وكيف أنهم يعفون عما سلف , " وبعد إسبوعين جاء شيوخ بني حسين وذبحوا كثيرا من الإبل , بعد أن أدوا القسم علي حسن الجوار والتعاضد في السراء والضراء.. والخائن الله يخونه " ورقص الجميع وفرحوا وتزاوجوا ودعوا الله أن يبارك لهم هذه الجيرة وأن ينصرهم على من عداء فلقد أصبحوا الآن من لحم ودم , هكذا كانت الحياة على سفح الجبل جميلة صورها النص إقتصادها يعتمد على المانجو , والرعي والزراعة , وطبيعة الجبل , كانت جميلة , كان الأجدر بالمسئول الحكومي الذي جاءهم بالسلاح ربما لأن نفسه تكره أن تري الجمال الذي يكمل جمال الطبيعة في إنسياب وتناقم دون أن ينقص من الطبيعة شئ , ربما إيمانا بالتكامل الفطري مع البيئة , كانت هذه هي الحياة إلى أن جاء المسؤول الذي حاول جاهدا أن يشعل الحرب , حاول أن يصنع العداوة ما بين الجيران , لماذا؟؟ سؤال يقود القارئ إلى جذور الحرب الطاحنة في إقليم دارفور , وكلما وجدت إجابة قادك النص إلى أسئلة أكثر تعقيدا , لماذا حاول المسؤول الحكومي أن يقنع أعراب بني حسين أن أهل خربتي وهو يدعوهم بالزرقة هم أعدائهم ؟ وعندما رفض القوم أن يقتنعوا , أعاد حديثه وأخبرهم أنهم أعداء ولكن القوم إذدادوا حنقا وما إقتنعوا, ومن هنا إتجه إلى إسلوب آخر ,جلب العدو من الخارج , جلب أعراب من النيجر ووعدهم جنه المانجو والأرض , وكيف أنه عمل على غسل أدمغة الشباب من بني حسين وعمل على تدريبهم نفسيا وأطلق عليهم لقب أمراء في الدنيا وشهداء في الآخرة وذاد في الفحش أن زوجهم من الملائكة , السؤال يذداد تعقيدا عن جذور تلك الحرب الطاحنة , ولماذا يجهد المسؤول الحكومي نفسه ويقوم بكل هذا الشر ؟ وبعد إسبوع من رفض بني حسين أن يشاركوا في هذه الحرب , تحولت خربتي علي يد آخرين إلى أنقاض وباقي جثث , لا تسر أحد إلا ذلك المسؤول ومن بين الأنقاض وجدت عبدالرحمن أو عبدالرحمانة وهي أحد شخوص هذه الرواية وأخذت لها مكانه في الحرب الدائرة ويصور لنا النص كيف أنها سخرت كل أسلحتها الجسدية وغيرها من أجل الإنتقام, وكيف أنها ستلتقي في بيت العمة خريفية وتتداخل مع شكيري وإبراهيم خضر في تناغم سردي بديع ومن هي العمة خريفية ؟

(4)

صورة أخري في النص لقرية حجيرات الوادي , مشابهه تماما لسابقتها , في حجم المأساة والألم , يقدمها النص ويتسآل كيف هجم الجنجويد المستجلبون من النيجر علي القرية وأحالوا حال أهلها وقتلوا الأطفال واغتصبو النساء ولماذا كل هذا ؟ هرب ماتبقي من أهل القري إلى تخوم المدن الكبري وسوف ينتهي بهم الأمر إلى القري النموذجية التي تشيدها إحدي الدول العربية , هل كل هذا مخطط له أم أنه مصادفة من مصادفات الحرب ؟ وفي وصف الجنجويد " كانوا سكارى ومساطيل تفوح منهم رائحة العرق والمريسه ... قالت أحست بأن الأرض تميد تحت قدميها وكانت تظن أن الله سيخسف الأرض بالجنجويد أو يحرقه حيا ولكن الجنجويد في لمح البصر فصل رأس الطفل عن جسده تماما رمي بالرأس بعيدا وهو يصرخ مكبرا في هستريا " ويستمر النص في وصف تلك المأساة ويصور النية النفسية للجنجويد ولا يستثني موظفوا وجنود الأمم المتحدة والإتحاد الإفريقي الذين يكتفون بأخذ الصور , وجيش الحكومة الذي يخشي من تلك الصور ويستمر القاتل في القتل , من عمق هذا كله خرجت العمه خريقية قتل طفلها وزوجها وهرب الطفل الآخر ربما ليترك لها أمل من أجله تحيا وإنتهي بها الحال إلى سوق نيالا تبيع جوار الجزارة وتحمل داخلها كل هذا العالم .

(5)

الرواية مليئة بالصورة البديعة ولكن حاولنا المرور سريعا , كما صورت لنا معركة يشترك فيها كل المعذبون في الأرض , الصور في النص صور تنبض بالحياة , من داخل خيال المعارك , معارك يشارك فيها الطيران الصيني العنيف بين جلباق قائد الجنجويد الذي يحلم بجنة عليون جثث الأبرياء ويقاتل مثل ربوت صيني الصنع , وبين شارون الذي يجيد الضحك بصوت عالي ونصب الكمائن لقتل الجنجويد وإرسالهم إلى الجحيم , صور المعارك والأعداد لها والتساؤلات في النص عن أسبابها والأشخاص الذين دفعتهم الظروف للمشاركة في هذه الحرب مثل عبدالرحمنه التي تحولت من طفلة إلى مقاتلة تأكل أكباد الجنجويد , ومنهم من يقاتل من أجل حب مثل شكيري ومنهم من أجبر على الحرب مثل إبراهيم خضر وغيرهم يجده القارئ في نص مسيح دارفور وحتما القارئ لن يجد نفسه هي نفسها قبل وبعد الولوج إلى مسيح دارفور وسيظل يتسآل عن المكار الذي يدير حرب الأبرياء ويستجلب القتلة ؟

(6)

خطابات في النص:

· ناقش النص التاريخ البائس لمسألة الرق في المنطقة بطريقة ممنهجة في شخص إبراهيم خضر , وهذا لم يكن من أجل دراسة هذه القضية , بل في النص تحذير وتنبؤ بأن مسألة الرق قد تعود نتيجة الحرب وعدم الإستقرار وأن الظروف في المنطقة تقودنا في مسار خطي إلى التاريخ البائس وربما نصل إلى النخاسة وسيكون هنالك نخاسون جدد وقد لا يسلم من هذا قدامى النخاسين , وهذه النبؤة بدأت تتحقق ربما في مناطق ليست ببعيدة عنا.

· في النص رسالة تدعوا إلى السلام والمحبة , أنزل المسيح وسط الحرب الدائرة ولم ييئس من شئ " إبتسم الرجل وقف النجاران قالا أنهما أمنا به , إبتسم الرجل , قال جندي شاب إنه آمن به ..ثم قال جنجويد أتي مع الجيش إنه آمن به" وآمن الجميع وعبر الموكب يحمل كل المعذبون والجنود وغيرهم من الناس يمر عبر الصحاري والوديان والقرى المحروقة فترجع كما كانت , في كل هذا رسالة بأن السلام ممكن ويمكن مناله

(7)

ولم يتبقي شئ إلا أن نقول أن الكاتب مزج الواقع بالسحر في النص مستخدما أدوات روائية في غاية الروعة والتقدم من تقنيات للإسترجاع السردي وغيرها , مما جعل الرواية تحفة فنية تدفع القارئ ما إن ينتهي منها إلا ويفكر في أن يعيد قرائتها بمذيدا من الإندهاش , والواقع السحري في الرواية ليست واقعا سحريا كما نسمع به اليوم في روايات ماركيز وغيره من الكتاب الكبار وإنما واقعا سحريا خرج من عمق سحر الشعوب السودانية نفسه يقول عنه بركة ساكن " فكرة المسيح في دارفور لها علاقة كبير بفكرة المهدي المنتظر عند السودانين بشكل عام ويفكرون أنه في كل بدايه قرن من الزمان يأتي مهدي منتظر , يملأ الأرض خيرا بعد أن ملئت فسادا .. الخ ويمكن أن يأتي المسيح من أي مكان في السودان , وهنالك نبوأت كثيرة جدا في السودان وفكرة المسيح وغيرها ليست بغريبة علي الشعوب السودانية " إذن هذا السحر سحر له وقعه الخاص وموسيقاه تجد بركه ساكن يتحسسه في النص ويتتبعة في عالم نحلم جميعا أن نرى واقعة جميل كما نتخيله ونتمناه. الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم