ما أن نفتح رواية «قصر القمر» لبول أوستر (ترجمها عبد المقصود عبد الكريم للمركز القومي المصري للترجمة) حتى نجد أنفسنا أمام ولع شديد بفتنة التفاصيل المدهشة، فالرواية التي تجاوزت 300 صفحة من القطع الكبير جاءت كملحمة طويلة نسجت فسيفساؤها على دقة التفاصيل، تلك التي اشتملت على كل شيء، بدءاً من أسماء الشوارع والمغنين والمحلَّات والمطاعم والملابس والمسارح ودور السينما. التفاصيل التي شكلت حياة الناس وما جال بخواطرهم في زمن السبعينات من القرن الماضي، لنحصل في النهاية على ملحمة روائية بنفَسٍ شعري طويل. ملحمة دارت على مدار قرن من الزمان حافلة بالكثير من الوقائع التي أفرزت تحولات عدة في علاقات التواصل الاجتماعي، من خلال ثلاثة أجيال تلتقي في الوقت بدل من الضائع. الحفيد يعمل مع الجد من دون أن يعرف أي منهما الآخر، والأب الذي يتعرف في وجه ابنه على ملامح حبيبته التي تركته منذ عشرين عاماً بعد لقاء غرامي واحد، لتصبح «قصر القمر» ملحمة المصائر الضائعة أو البحث عن صيغة التواصل أو التكامل الإنساني بين الأجيال والحضارات وليس المواجهة أو الصراع. يعد بول أوستر (1947) واحداً من ألمع الكُتَّاب الأميركيين، وهو شاعر وروائي من أصول بولندية، عمل لسنوات عدة في باريس؛ قبل أن يستقر من جديد في أميركا منتجاً الكثير من الأعمال الروائية المهمة كثلاثية نيويورك، موسيقى الصدفة، مستر فيرتيجو، تيمبوكتو، حمقى بروكلين، كتاب الأوهام. وتعد «قصر القمر» واحدة من أهم أعمال أوستر التي يمزج فيها الحس الشعري بالسرد الروائي عبر قدر مهول من التفاصيل، حتى أننا نشعر بحالة غرام شديد بينه وبين رصد المنمنمات في السرد. لكن اوستر كان من الوعي الكافي بألا يترك القارئ يشعر بالملل، ومن ثم اختار إيقاعاً سريعاً للحكي، حتى أننا نكاد نشعر طيلة الوقت بأنفاسنا اللاهثة وهي تتابع تواتر الكلمات والجمل، موقنين أن كل كلمة في ذلك التدفق السريع ما هي إلا قنطرة عبور نحو مشهد جديد. هكذا جاء إيقاع تلك الرواية الكبيرة سريعاً وخاطفاً كأنه إيقاع ملحمة شعرية كبيرة تقوم على سرد التفاصيل. يمكن القول إن «قصر القمر» هي أحد الأعمال التي تنتمي في شكل واضح إلى فكرة التراجيديا اليونانية القديمة، حيث البطل المصاب بلعنة لا دخل له فيها، ولا يستطيع أن يغير من قدره إلا في نهايات أيامه، وهو تغيير أشبه بتحدي إرادة الآلهة ما يجعلها تعاقبه. هكذا نجد أنفسنا أمام ثلاثة أبطال (الجد والابن والحفيد)، ونجد في الخلفية أصداء الحربين العالميتين، والحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، فضلاً عن رصد تطور المدن والشوارع وعلاقات البشر في خمسينات وستينات القرن الماضي. تقوم الرواية على حيلة أن شاباً يُتوفى خاله الذي كان يكفله، ويصبح عليه أن يعول نفسه في مجتمع قائم على الفردية والقسوة وانعدام التكافل الاجتماعي، وفي إطار سعيه إلى البحث عن عمل لا يجد غير وظيفة قارئ أو مرافق لرجل مسن مريض وقاسٍ، مع تطور الأحداث نعرف أن هذا المسن كان فناناً تشكيلياً يدعي جوليان بربر في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، وأنه تزوج من امرأة رفضته كلياً حتى قرر الذهاب بعيداً منها في رحلة إلى صحراء وجبال ايوتا القاسية. هنالك فقط سمحت له بالنوم معها لمرة واحدة ووحيدة، لكنه في رحلته يتعرض ومرافقه لحادث سرقة على يد الدليل الطامع في أموالهما، وينتهي الأمر بأن يكون جوليان هو الوحيد الذي نجا من الموت، لتموت على يده عصابة من سارقي الأموال في الأربعينات في كهف لجأ إليه، ومن ثم يصبح مالكاً لأموالهم، وحين يقرر العودة إلى أميركا يكتشف أن زوجته ماتت، وأنه أنجب ابناً وأن الحياة سارت من دونه وبوصفه قد مات في رحلته إلى الجبال، فيقرر أن يغير اسمه من جوليان بربر إلى توماس افينج وأن يعيش بعيداً في عالم منعزل. لا تبدو مأساة الابن (سليمان بربر) في أنه لم يعرف أن والده كان حياً إلا بعد وفاته، لكنها تجسَّدت في بدانته، إذ كان يزن أكثر من ثلاثمئة وخمسين رطلاً، ومن ثم عاش طفولة منعزلة، ولم تنجذب إليه سوى واحدة من طالباته هي إيميلي فُج، تلك التي نام معها في نزل الجامعة، لكن حظه جعل الخادمة تدخل عليه وتأخذ في الصياح حين تراهما عاريين، وكانت النتيجة طرده من الجامعة وهروب حبيبته من كل ما يذكرها بفضيحتها، فتخلت عن دراستها وجلست لتربية طفلها من دون أن تخبر سليمان بربر أن علاقتها معه أثمرت طفلاً أسمته ماركو، ومنحته لقب عائلتها (فُج). ظل بربر يعيش مأساة خجله من بدانته متنقلاً بين جامعات إقليمية عدة وقاتلاً نفسه في إنتاج كتب تاريخ لا يقرأها أحد، غير معترف بوزنه المتزايد وكأنه يمارس انتحاره. وحين يلتقي ماركو بسليمان بربر يتأكدان أن ماركو ابن إيميلي وأنه ثمرة العلاقة بينها وبين بربر، ويصبح على ماركو أن ينقل ميراث الجد إلى الأب كاملاً بكل ما رواه من أساطير عن رحلته إلى صحراء يوتا ومن اختبائه في كهف هناك وقتله لعصابة الإخوة جريشام التي قتلت الناسك صاحب الكهف. وفي النهاية يقرر بربر الذهاب لرؤية الكهف كي يتأكد من ميراثه الأسطوري عن والده، وفي الطريق يمر مع ماركو على مقابر ويستلون لزيارة قبر ايميلي، لكنه يسقط في حفرة فتتهشم فيها عظامه ويموت، فيدفن بجانب حبيبته الوحيدة والقديمة. للمرة الثالثة تتكرر المأساة مع الحفيد الذي تنقذه من الموت جوعاً فتاة صينية تدعى «كيتي وو» التقاها مصادفة بعد رحيل خاله وارتبطت به طول فترة عمله لدى توماس إفينج، لكنها حين علمت أنها حامل قررت أن تنهي حياة الجنين لأنها لا تريد سوى الحب والحياة من أجل الرقص الذي جاءت من بلادها لتبرع فيه. رفض ماركو ذلك ولم يستطع البقاء معها فتركها وذهب للإقامة مع بربر، ومع موت الأخير لم يجد سواها ليتصل بها كي تكون إلى جانبه، لكنها فاجأته بأنها اتخذت طريقها نحو حياة جديدة وعليه أن يعتني بنفسه. ثمة احتفاء واضح بالحياة في «قصر القمر» من خلال التفاصيل والمنمنمات والإيقاع السريع اللاهث للسرد، لكن ثمة تراجيديا في العلاقات الإنسانية بين البشر، حيث القسوة والعزلة والخوف الدائم من الآخر، ومن ثم فالرواية في مطافها الأخير هي أنشودة كبــرى لإعـادة النظر في ما جرى من تفتت لتلك العلاقات، ودعوة إلى وقف المزيد من الاغتراب في مجتمعاتنا الحديثة. عن صحيفة الحياة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم