تعددت الأعمال التي تبحث في مآل الإنسان بعد موته بتعدد آراء الدارسين والباحثين والمفكرين، واختلفت الرؤى حول مصير الأرواح بعد مغادرتها الأجساد باختلاف العقائد والثقافات، ولعل هذه الأفكار تبقى مدار العديد من المواضيع التي تطرقت إليها روايات خرجت أحداثها عن المألوف والسائد، لتنقلها من الواقع إلى الخيال، وتطير بالقارئ من العالم الأرضي إلى العالم العلوي، وهذا ما نراه جليّا في رواية “أعود إلى المطر”، للكاتب الياباني تاكوجي إيشيكاوا، والصادرة حديثا عن دار دال للتوزيع والنشر، بترجمة لراغدة خوري.

في رواية “أعود إلى المطر”، لتاكوجي إيشيكاوا، يأسرنا الكاتب منذ السطرين الأولين في الرواية التي تبدأ بعبارة “من خلق كوكبنا ألم يُصمم عالما آخر غير عالمنا؟ كوكبا آخر يذهب إليه المتوفون”، وبعد قراءة البدايات الأولى للرواية يمكننا القول إن هذا الكوكب هو تقريبا مثل أعماق قلوبنا. ومن منطلق هذه الفكرة التأملية تدور أحداث الرواية، فالكاتب يغوص عميقا في تأمل هذه الفكرة والتساؤل: أين يذهب الأموات؟ والرواية بلا أحداث تُذكر، بل هي شبه سيرة ذاتيه للكاتب، وبطلة الرواية هي شبح، وهذا ما أعطى للعمل جاذبية. على مدار 335 صفحة، فإن البطلة المطلقة في الرواية هي شبح زوجة ماتت، وكانت عاشقة لزوجها الكاتب وابنهما الوحيد الذي لم يتجاوز سنواته الست، الزوجة الميتة تسكن في كوكب هو كوكب الأرشيف حيث يسكنه الأموات، لكنها تعود إلى أسرتها (زوجها وابنها) مع بداية فصل المطر، تعود إليهما بلا ذاكرة، لا تتذكر أي ذكرى مما عاشته وهي لا تزال حية، لكنها تعرف أن لها زوجا وابنا.

ثمة رؤى عميقة يطرحها الروائي فتدفعنا إلى التأمل، مثل: طالما هناك أحد ما يفكر في شخص ما، فإن هذا الشخص سوف يستمر بالبقاء على قيد الحياة. ونتلاقى مع رؤية أخرى تأملية أيضا: عندما نفكر في شخص نحبه يصبح هذا التفكير مرتبطا بالفقدان.

الزوجة الشبح

الرواية، التي تمتد على نحو 335 صفحة، أشبه بمناظرة أو تأمل عميق في الحياة والموت، فالزوج وابنه لا يزالان على قيد الحياة والزوجة توفيت وسكنت كوكب الأموات الذي يُسمى الأرشيف، وتعود إلى أسرتها مع موسم المطر شبحا فاقدا للذاكرة، وتحاول الزوجة الشبح أن تستعيد حياتها حين كانت حية، ولا تملك سوى ما يرويه لها زوجها من ذكريات، وهي تشعر بالحب تجاه ابنها وزوجها لكنها تبقى هائمة في فراغ النسيان وفقدان الذاكرة، ويصفها الزوج الكاتب والذي كان قد بدأ بكتابة رواية عنها وعن عودتها لكنه يخفي عنها روايته “كان من الصعب التعرف على تأملاتها الحميمية من خلال وجهها فقط، كان باستطاعتي الشعور بعذاب قلبها بمجرد رؤية الارتجاف العصبي الذي كان يحرك ملعقتها”.

وتنتهي الرواية باختفاء الزوجة تدريجيا “كما لو أنها تذوب إذ تبدأ رؤوس أصابعها بالاختفاء ولا تبقى منها سوى ملامح غير واضحة كما لو أن محتوياتها قد ذهبت إلى مكان آخر”.

وكما بدأ الكاتب بخطفنا وإثارة فضولنا وانتباهنا في السطور الأولى فإنه وبعد كتابة 319 صفحة يفصح لنا عن قناعته وربما هي غايته من كتابة هذه الرواية، فيقول “لم ينشأ القلب الإنساني كي يتخطى الزمن، وإذا ما حصل لنا يوما هذا وفقدنا الذاكرة، فذلك دون شك كي نحتفظ بعقلنا لأنه بعد كل شيء؛ فلو أنا بقيت أحتفظ بذكرياتي لعانيت الكثير من الارتباك”.

بعد تتبع للأحداث نفهم أن الكاتب أراد أن يؤكد أن عالمي الأحياء والأموات لا يمكن أن يتعايشا، وأن سكان كوكب الأرشيف حيث يسكنه الأموات لا يمكنهم العودة إلى الحياة وإعادة التواصل مع من يحبون، والطريف أن الزوجة الشبح تعود عذراء، كما لو أن الروائي يسمح لنفسه أن يوغل في الخيال.

أسئلة وجودية

الرواية مليئة بالأسئلة الوجودية العميقة التي تطرحها حول الأحياء والأموات، لكن إسهاب الروائي في وصف أدق التفاصيل والأحداث والحوارات بينه وبين زوجته الشبح قد يُشعر القارئ وهو يقلب الصفحة تلو الصفحة، أنه لا توجد أحداث سوى ذكريات بين زوج وزوجة ماتت بعد أن عاشا معا أربعة عشر عاما، وبالتأكيد لجأ إلى شخصية الشبح كي يُضفي تشويقا على الرواية التي بلغت مبيعاتها المليون نسخة.

وعندما وصلت مبيعات الرواية إلى هذا العدد في اليابان، تمحورت أسئلة كثيرة حول الرواية وسألوا الكاتب: أيّ مقطع من الرواية هو الصادق؟ وما رأيك في الحب الحقيقي؟ وكان جوابه أن العناصر التي تبدو طبيعية هي العناصر الخيالية، وتلك التي في الغالب تبدو غير قابلة للتصديق هي العناصر الحقيقية. وبأن زوجته ليست شبحا ولا تزال تعيش معه وبأن علاقته مع أمه التي استنفد الحمل قواها حين كانت حاملا به وعلاقته مع زوجته هما أساس ما ارتكز عليه في روايته.

أتساءل مع كل من قرأ هذه الرواية أو سيقرأها: ما المعيار لشهرة عمل أدبي؟ هل هو جودة النص أم إغواء القارئ بقصص مسلية وغير واقعية، والسماح للخيال أن يصول ويجول دون أن يخدم فكرة أو يُوظف لغاية؟ وكلنا نعرف أن روايات عبير التي ألهبت مخيلة المراهقين تحقق أعلى المبيعات، وأن أعمالا وروايات كثيرة لا تمت للإبداع الحقيقي الأصيل بصلة قد حققت أعلى مبيعات.

الأمر يحتاج إلى دراسة لأنه -حسب رأيي- لا يمكن إيجاد تبرير لأي مبدع على الإطلاق، فاللجوء إلى غواية القارئ بأسلوب أو بأفكار لا قيمة لها تتبخر، ولا تُغني القارئ بشيء حالما ينتهي من قراءة الكتاب.

وأظن أن رواية “أعود مع المطر” تندرج تحت تصنيف الروايات الخفيفة، الأشبه بروايات عبير للمراهقين، وهي في الحقيقة رواية لليافعين، لأن أي إنسان مهتم بالأدب ولديه ذائقة أدبية سيتأفف ويشعر بضجر قاتل وهو يقرأ أكثر من 300 صفحة من ذكريات عادية وحب بين زوجين، لكن المراهقين يحبون الروايات الشاعرية والرومانسية لأنها تدغدغ عواطفهم وليس عقولهم على الإطلاق.

فأن تبلغ مبيعات رواية تفتقر للإبداع الأصيل المليون نسخة في اليابان وحدها وأن تُترجم هذه الرواية إلى لغات عدة ومنها العربية، فهذا يضعنا أمام واقع ثقافي لا يميز بين الإبداع عالي الموهبة والذي يطرح أفكارا عميقة ووجودية وبين كتابة خفيفة تلعب بمشاعر القارئ لعبة إغواء رخيصة. عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم