يقول الروائي التركي أورهان باموك، عن روايته "متحف البراءة" إنه :"بين عامي 1996-2000 كنت أصطحب ابنتي رؤيا إلى مدرستها صباحاً. بعد أن أودعها عند باب مدرستها خلف طوبخانة (على بعد 300 متر من بيت عائلة كسكين/ عائلة حبيبة بطل الرواية)، أعود سيراً على الأقدام ماراً بـ "بيه أوغلو"، "تشوقور جمعة"، "فيروز آغا"، ومن الأزقة الخلفية لـ "جيهان غير" إلى مكتبي وأنا أفكر بما سأكتبه اليوم. كنت أستمتع جداً بالسير في الأزقة أثناء فتح الدكاكين أبوابها في برودة الصباح، حيث تتناهى رائحة الخبز والكعك من الأفران، وأرى سير الطلاب الحثيث للحاق بمدارسهم. لعل السبب في ذلك هو أنه يوم جميل، واستطعت كتابة صفحتين من رواية جديدة لي... ولعل السبب هو أنني رأيتُ في تلك الأزقة كثيراً من سنوات طفولتي وشبابي قد عتق من دون أن يتفسخ، وعاش من دون أن يُجدد، ويعطى بنية جديدة مصطنعة... فكرت أحياناً أن تلك الأزقة وأولئك الناس والجو هم خارج الزمن لن يتغيروا قط.

ما رأيته في تلك الأزقة، هو الخبز والكعك الطازج في واجهات الأفران، إعلان مسكن ألم قديم جداً يظهر الأحشاء الداخلية للإنسان على واجهة صيدلية، ألوان مرطبانات كبيرة صفت بعناية في واجهة دكان مخللاتي تثير فيني رغبة جامحة للرؤية والفرجة؛ لذا أردت أن أمتلك هذه المشاهد، وأضعها ضمن إطار ما وأبقيها، بحيث أثق بأنني لن أفقدها قط".

يشرح باموك هذا وأكثر في الطبعة الجديدة من روايته المذكورة، والتي أضاف فيها فصلاً جديداً تحدّث فيه عن دوافعه لكتابة هذه الرواية كما رد فيها على أسئلة القراء التي كانت تطرح عليه باستمرار.

لم يتوقف باموك الحاصل على جائزة نوبل للآداب، في روايته عند الدكاكين والمحلات والناس في تلك الأزقة فقط، بل غاص إلى أعمق من هذا. منطقة "تشوقور جمعة" التي يقع فيها بيت حبيبة البطل والتي تُعرف بدكاكين "باعة الأشياء المستعملة"، التي أثارته أيضاً بدورها، وبدأ يشتريها، ويتغنى بها: "اكتشفتُ إمكانية استنباط قصة بالنظر إلى مجموعة من الأشياء فقط، وإمكانية التفكير برواية، وأن تصبح هذه عادة لدي". يستشهد باموك هنا بمقولة منظّر الأدب الشكلي الروسي فيكتور شلوفسكي "إذا اخترنا سلسلة أشياء بدافع غريزي، ووضعناها أمامنا، وربطناها بقصة، وتخيلنا كيف يمكن إدخالها إلى حياة الأبطال، هذا يعني أننا بدأنا بتشكيل رواية".

وقد تشي لنا هذه المقولة بأن الروائي كتب قصة عشق من خلال التركيز على "الأشياء" التي يصفها بروية في روايته.

اذ تبدأ "متحف البراءة" مع بطل القصة، كمال، وهو في الثلاثين من عمره، رجل أعمال غني، يقابل فسون البائعة الفقيرة والتي تربطه بها قرابة بعيدة في محل مهمل صغير، وسرعان ما يمارس معها الحب في لقائهما الثاني، ليعيش معها ما يقارب خمسة أسابيع كانت الأسعد في حياته. هذه السعادة وهذا العشق يشعره بالبرود تجاه خطيبته ابنة الدبلوماسي السابق المتعلمة خريجة فرنسا، إلا أنه سرعان ما يعاني ألم فراق فسون باختفائها بسبب إعلان خطوبته رسمياً على "سيبل"، فيبدأ بالتردد على البيت الذي مارس فيه الحب معها، ويتذكر الأشياء التي لمستها، وفنجان الشاي الذي شربت منه، بحيث يجد سلواناً لنفسه من خلال محاولته تمييز رائحة الحبيبة في تلك الأشياء.

بعد اختفاء فسون، لم يترك وسيلة إلا جربها ليصل إليها، وأرسل العديد من الرسائل لها مع صديقتها، ولكن بقيت رسائله من دون إجابة. وبعد عام تقريباً تظهر بارقة أمل، حين تصله رسالة تدعوه فيها فسون إلى العشاء في بيتها. إلا أنه سرعان ما يُصدم، فقد تزوجت فسون من شاب بعمرها تقريباً يعمل في قطاع السينما، ويعيش مع العائلة باعتباره صهر بيت.

بعدها تطلب منه والدة فسون التي يناديها العمة نسيبة، أن يستمر بزيارتهم، يقول في الفصل الرابع والخمسين من الرواية، والمعنون بـ"الزمن": "ذهبت لرؤية فسون، وتناولت العشاء معهم على مدى سبعة أعوام وعشرة أشهر. بما أنني ذهبت أول مرة بعد قول العمة نسيبة: ننتظرك في الأمسيّة بأحد عشر يوماً... فقد مر 2864 يوماً. في الأربعمئة وتسعة أسابيع التي سأروي قصتها، تناولتُ عندهم 1593 عشاء بحسب مدونة ملاحظاتي. هذا يعني أن المعدل أربع مرات في الأسبوع".

مع الزيارة الأولى لبيت حبيبته تبدأ معاناة كمال، وتصرفاته الغريبة. فكلما رآها تلمس غرضاً ما، يلتقطه، ويدسه في جيبه، ويضعه في شقته الخاصة ليجد فيه سلواناً لبعد حبيبته. ضمت تلك المجموعة، الملاعق والشوكات إلى أعقاب السجائر وصولاً إلى أوراق التقويم وتماثيل الكلاب التي كانت توضع على التلفاز وكل ما يتعلق بتفاصيل الحياة اليومية لفسون.

يقول باموك في إضافته الجديدة على الرواية: "العالم يعج بالأشياء التي يمكن أن توضع في روايتي ومتحفي. ولكن انفعالي لم يكن انفعال جامع مجموعة، بل انفعال فنان روائي يريد أن يجعل من هذا الشيء جزءاً من رواية ومتحف. كنت أحب هذه الأشياء مثل كثير من الأِشياء في حياتي لأنها ستكون جزءاً من قصة وكتاب. أحياناً أنجح، أي أنني أضع الشيء أمامي، وأتحدث عنه وأنا ممعن النظر فيه مثل روائي "واقعي". وفي أكثر الأحيان أغير مجرى الحديث قليلاً عن ذلك الشيء، وأكبح نفسي لكي أحمي روايتي من المبالغة بالتصوير، ومخاتلة جاذبية الواقع".

وفعلاً لم يترك ما في الحياة من أدوات وأشياء يمكن أن نستعملها إلا وتناوله في الرواية. فمن أعقاب السجائر وحدها جمع 4213 عقب سيجارة دخنتها فسون، وحلل كل عقب سيجارة بحسب الحالة النفسية التي أطفأته فيها. كل علبة ثقاب تلمسها كانت تجد طريقها إلى جيب كمال، ثم إلى الشقة التي يجمع فيها تلك الأشياء.

يحتل حي "نيشان طاش" الاسطنبولي بطولة الرواية هنا أيضا، ففي رحلة بحثه كمال عن فسون، واستذكاره نزهة معها في السيارة عندما كانت طفلة، وكذلك عندما كان يستخرج لها إجازة قيادة السيارة يغوص في أحياء اسطنبول القديمة التي تندثر تدريجياً، لتصبح تلك الأحياء الإسطنبولية العريقة أبطالاً مساعدين في الرواية أيضاً.

تناول باموك أيضاً الحياة الاسطنبولية عموماً منذ الستينيات إلى السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، وعرض واقع السينما والتلفزيون التركي، وأفلام الميلودراما التي كانت سائدة في تلك الفترة. وكثيراً ما انتقد هذا النوع من الأفلام على لسان بطله كمال والآخرين. ولعل باموك وقع في نفس الخطأ أثناء سرده لقصة الحب تلك، إذ تحمل روايته بعض ملامح هذه الميلودراما. فالبطل الغني يحب فتاة فقيرة، وبعد عناء ومعاناة تنفصل الفتاة عن زوجها، وتعود إليه، ولكن قبل أن تنتهي القصة بزواج البطلين تتعرض فسون لحادث سيارة تفقد حياتها فيه.

وقد يكون الروائي أراد أن يقول إن الميلودراما بحد ذاتها ليست عيباً، ولكن طرق المعالجة هي التي تجعلها هابطة، وهذه هي محاولة لكتابة ميلودراما في قالب فني رفيع!

بعد حادث السيارة الرهيب الذي فقدت فيه فسون حياتها، بقي البطل في المستشفى غائباً عن الوعي فترة، يفكر بما يمكن أن يفعله بتلك الأشياء التي جمعها باعتبارها ذكرى من فسون أو سلواناً له عن غيابها.

وهنا يستعرض باموك متاحف العالم كلها تقريباً، ويذكر رقماً مهولاً للمتاحف التي زارها بطله، فقد بلغت 5723 متحفاً، وهو في الحقيقة يصف عشرات المتاحف العالمية في الرواية، وزياراته لتلك المتاحف هي التي ألهمته فكرة إحياء ذكرى الحبيبة من خلال متحف.

على الرغم من تأخر افتتاح المتحف عن موعد صدور الطبعة الأولى من الرواية أربع سنوات، ولكن الواضح أن باموك بدأ بمشروع روايته ومتحفه بشكل متزامن، ومنح روايته واقعية تكاد تتماهى مع واقعية أميل زولا بتحويل البيت الذي شهد أحداث الرواية إلى متحف، وعرض فيه كل ما أتى على ذكره في الرواية من أدوات وصور أماكن، وملصقات أفلام، وألبسة فسون، وحليها، وأحذيتها، وأعقاب سجائرها... وغيرها.

يجيب أورهان على الاتهامات التي طاولته بأنه كمال بطل الرواية " من السهل قول: "لا، أنا لست كمال! إنه بطل قمت أنا بنسجه." ولكن الأصعب هو إقناع القارئ الذي دخل إلى تفاصيل مشاعر كمال الخاصة، وآمن بها بأنني لم أعش هذا الشعور في حياتي. الرواية هي مهارة عرض الروائي مشاعره كأنها مشاعر الآخرين، وعرض مشاعر الآخرين كأنها مشاعره. مهما قلت، يبقى كمال شخصية خيالية، الا أنني مثل كل روائي أريد من قرائي أن يشعروا بأنني اختبرت قصة العشق التي كتبها".

(كاتب من تركيا) عن صحيفة العربي الجديد

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم