إن أدب الملاحم أدب فني قديم، في تاريخ الأدب العالمي مليء بالأحداث التي تقص حكاية شعب من الشعوب، وتقص ملحمة شعرية بطولية تخلد لتصبح نموذج إنساني يُحتذى به، وكما نعلم في الحبكة الملحمية أن أبطال الملحمة عادة من البشر الخارقين. وبعد ملحمة هوميروس الإلياذة والأوديسة التي تنتهي بانتصار اليونان وهزيمة طروادة، تظهر الإنياذة في أدب بوبليوس فورغيليوس مارو والتي تعني قصَّة إنياذ. وفي الترجمات تكتب إنياس. ولد فورغيليوس مارو والمتعارف عليه باسم فرجيل بمانتوا بشمال ايطاليا عام 70 قبل الميلاد، وكسب شهرة إثر كتابته مجموعة شعرية باسم "أناشيد الرعاة" أو "إكلوغاي" وفي حدود العام 39 قبل الميلاد، وبعد حوالي العشر سنوات كتب "جيورجيكون" أو "العمل في الأرض". ثم كتب ملحمته "الإنياذة" ويعد من مؤسسي الأدب اللاتيني، وألف الإنياذة لتكون شاهداً أدبياً على الأصول الطروادية لروما، وعلى أن المدينة أسست بناء على رغبة الآلهة، فأصبحت الإنياذة واحدة من أهم آثار الأدب اللاتيني عبر العصور. وعلى الرغم من أن فورغيليوس توفي عام 19 قبل الميلاد دون أن ينشرها، لتظهر بعد ذلك ترجمات عدة منها بواسطة جون دريدن، وهو شاعر إنجليزي عاش في القرن 17 حيث تقارن الإيناذة كثيراً بإلياذة هوميروس وأوديسته. أما ترجمات فيرجيل في اللغة العربية تأخرت أعماله على العكس من سلفه الأغريق أمثال هوميروس، فكان أول عمل ترجم له هو"أناشيد الرعاة" مسبوقاً بدراسة بقلم المترجم أمين سلامة عام 1950 وذلك عن اللغة الأصلية اللاتينية، وبهذا عرف فرجيل لأول مرة لدى القارئ العربي، ثم صدرت الإنياذة بإشراف عبد المعطي شعراوي وترجمة نخبة من المترجمين عن الأصل اللاتيني، وذلك في القاهرة وعلى فترتين (الجزء الأول عام 1971والجزء الثاني عام 1975) وهي تعتبر ترجمة ممتازة، حيث أعيد طبعها في المركز القومي للترجمة. ثم ظهرت ترجمة عنبرة سلام الخالدي عام 1975 عن اللغة الانكليزية، وهي الأكثر انتشاراً وأعيدت طباعتها عدة مرات علماً أنها عن اللغة الإنكليزية وبتصرف. ثم بعد ذلك ظهرت عام 2010 ترجمة حنا عبود وأيضاً عن الانكليزية. لتظهر أخيراً ترجمة أخرى عن الأصل اللاتيني عام 2015م عن مشروع "كلمة" في مدينة أبو ظبي وهي ترجمة ذات نكهة خاصة ورائدة علماً أن صدورها تأخر كثيراً. قام بترجمتها الفلسطيني "محمود علي الغول" الذي بدأ بترجمتها نثراً في لغة أدبية رفيعة المستوى، وأخذ بترجمة "الإينيادة" كما يسميها عام 1942م وأنهاها عام1951م. ويقول زميله الأستاذ إحسان عباس كان محمود في لحظات الغضب ينظر إلى الإينيادة وإلى آثار هورتيوس نظرت غرباء احتلوا مكاناً من بيته وقلبه وكان الماضي قطعة من نفسه أينما يتنقل. وظل محمود الغول يعدل فيها بين الحين والحين ويحملها معه في سفره حتى وفاته في لندن فكان يقلب النظر فيها حتى وفاته عام 1983م، وظلت الإينيادة بحوزة زوجته نحو عشرين عاماً حتى العام 2004 دفعت بالنسخ المطبوعة والمترجمة إلى (عمر الغول) ابن أخ محمود مفوضة أمر نشرها له ففي عام 2007 طبعها ابن أخ محمود مستنداً إلى إحدى نسخها لكنها لم تتم حتى صيف 2013 مستعيناً عمر الغول بشريكته الآنسة نداء الخزعلي في هذا النشر . ولم تنشر إلا عام 2015م حيث تبين أن النص المترجم كان مايزال في حاجة للتحرير وما يزال في حاجة إلى مقدمة تعرف بالإينيادة وبمؤلفها وإلى كشاف بالشخوص، وسوى ذلك من أعمال، كان ينبغي استكمالها قبل دفع العمل بالنشر وذلك أيضاً لأن الترجمة كانت مكتوبة بخط اليد. يبدأ محمود الغول في ترجمته بالحديث عن صلته بفرجيل، التي ترجع إلى أربعين سنة، حيث فرض عليه وهو في الصف الخامس بالقدس أن يدرس الكتاب السادس من ملحمة الإنياذة ضمن مقرر اللغة اللاتينية ومن هنا بدأ الإلهام يأخذ بمحمود الغول إلى عوالم فرجيل، ففي صيف 1943 أقبل على دراسة اللاتينية وبدأ ترجمته للكتاب السادس من إنياذة فرجيل في ربيع 1944 وفي صيف 1944 أيضاً قام بترجمة كل من الكتابين الثالث والرابع، وأتم ترجمة الكتاب الرابع في مطلع 1945 وفي فبراير من نفس العام أتم ترجمة الكتاب الخامس وانتهى من ترجمة الكتاب السابع في أيلول 1949 وأتم الكتاب الثامن بنفس العام .أما الكتاب التاسع بدأ ترجمته مستعيناً بصديقه محمود زايد على الكتابة وهو يملي عليه، ففرغ من ترجمته في أب 1949. وبعدها ابتدأ بترجمة الكتاب العاشر في تموز ببيروت 1951 وفي نفس العام من شهر تموز أيضاً ترجم الكتاب الحادي عشر ولينهي الكتاب الثاني عشر في أب 1951 في بيروت . و نجد أن الإينياذه جاءت في (12) نشيداً في كل جزء يتحدث عن موضوع من موضوعات سفر إيناذ ذلك البطل الطروادي، الذي خسر قومه الحرب مع اليونان، وفر مع أتباعه وركب البحرمتنبأه له الآلهة بتأسيس الإمبراطورية الرومانية حيث واجه إيناذ العواصف وتاه لسنوات مع رفاقه في البحر حتى رسا على شواطئ ليبيا واستقبلته ملكة قرطاجة الذي يذكر اسمها فرجيل بـ(ديدو) فقص عليها سيرته وماحدث معه في رحلاته بسرد وبناء فني قوي ورغم وقوع ملكة قرطاجة أسيرة حب إيناذ الا أن البطل يتابع رحلته لتقضي ديدو نحبها منتحرة ملبياً انتصار نداء الواجب على نداء العقل فكانت ترتيب الأفعال والأحداث متناسبة في الترجمة لنهاية القصص التي ابتدأ في كل منها بالحديث عن ملخص الكتاب بشكل واضح يسهل على القارئ فهمة قبل قراءة الكتاب ووضع لوحات لأهم وأشهر رسامي العالم لسهولة فهم الحدث بطريقة فنية، أمثال:(-سيمون فويه 1653 تحت عنوان "إينياس يحمل أباه وابنه في هروبهم من طروادة"، -ببير نرسيس غوران 1810تحت عنوان "أندروماخى وبرهوس"، -جوزيف ستالارت 1825تحت عنوان "انتحار ديدو") وحملت بقية الكتب لوحات لأهم فناني العالم وكتبت الألفاظ والجمل بشكل منمق ومنسق وتشكيل حرفي وأدب رفيع المستوى حتى أن هناك كلمات جزلة قوية فيها ألفاظ عربية غريبة وذلك يتفق مع الطبيعة الأدبية المميزة للنص اللاتيني الأدبي استخدمها الغول مثل لفظة (القَرَم) في الكتاب التاسع ليعبّر به عن شهوة تورنوس إلى لقاء الطرواديين وهي تعني شدة الشهوة إلى اللحم وهناك ألفاظ أخرى مثل: الأريَ: العسل. الخُوان: وجمعها أَخْوِنة المائدة . جُؤجُؤ السفينة: صدرها، العظم المعروق: الذي أُخذ أكثر لحمه، والكثير من الكلمات الجزلة . يركز محمود الغول على أدق التفاصيل ويكتب ويترجم بهدوء وروية شديدين وأسلوب في قمة الرقي حيث ورد في الكتاب الثاني ترجمة لفرجيل بأسلوب ملحمي منظم دقيق في حديث طيف والدة إيناذ "((فهيا يا بنيَّ اغتنم الفرارَ، وضع حدّاً للعناء. إنني لن أتخلى عنكَ حتى أضعَكَ سالماً على أعتابِ والدِك)). قالت هذا ثم تلاشت في ظلماتِ الليلِ الحالكة، فظهرت لي الوجوهُ المرعبةُ، والقوى الإلهيةُ المخيفة، تناصبُ طروادة العداء. واحسرتا، إذ أرى اليوم كلّها تقرُّ في النيرانِ، وطروادة النبتونيةَ تُقلَبُ من قواعدِها كأنها شجرةٌ شائخةٌ فوقَ جبالٍ عاليةٍ، يكدُّ الحطابون أن يجتثوها بالحديدِ والفؤوس الصارمةِ، فهي تنذرُ أبداً بالسقوطِ، وتميدُ مرعشةً أوراقهَا، محنيةً رأسَها، حتى إذا ما أثخنَتها الجراحُ، وغلبتَها على أمرها شيئاً فشيئاً، أنَّت أنَّتها الأخيرةَ، وقد اجتُثت من أصولها، وخرَّت معقبةً الهلاكَ والدمار. فهبطتُ، وأخذتُ طريقيَ، تقودُني الإلهةُ، وأسرعتُ بين الأعداءِ واللهبِ، فكانتِ القذائفُ تفسحُ لي الطريقَ، والنيرانُ تتراجعُ عني"

وقبل نهاية الكتاب تحمل أخر سبع صفحات كشاف للأشخاص والآلهة والأماكن مرتبة على حسب الأحرف الأبجدية، لينتهي الكتاب بالحديث عن محمود الغول والحديث عن حياته بشكل موسع فمن أعماله المنشورة منها: هوراطيوس، ونحو ثلاثين مقالة في النقد والأدب نشرها في الصحف الفلسطينية، واللبنانية، والسورية، والكويتية. ومقالات في دائرة المعارف الإسلامية، وعدة منشورات له في مجلة العربي. ويذكر في الكتاب أن محمود الغول كان قريباً من الناس متواضع يسوي في ذلك بين العالم والعامي، فقد كان محدثاً جميل العربية، ناصعها وذلك ما ثبت في الترجمة.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم