يبدو أننا- كعرب- لا نعرف كثيراً عن الأدب الدنماركي، وكتابه ونصوصه، باستثناء أسماء قليلة عرفت في العالم العربي، واكتسبت مكانة لا بأس لها، كالكاتب المسرحي هنريك إبسن «1828-1906» والمولود في الأصل ب«النرويج» بجانب عمدة الأدب الاسكندفاني هانس كريستيان أندرسن «1805-1875» وأخيراً كريستين تورب فيما تتراجع أسماء أخرى أبرزها آدم أوكينشليجر «1775-1850».

خلال السنوات الأخيرة، احتلت تورب مكانة بارزة لدى الأوساط القرائية العربية، بخاصة بعد أن ترجمت لها رواية «بونساي» و«إله الصدفة» الصادرة بالدنماركية عام 2011 وبالعربية 2013 عن سلسلة «إبداعات عالمية» ضمن إصدارات المجلس الوطني للثقافة والعلوم والآداب في الكويت، بترجمة الروائية دنى غالي، ومراجعة أستاذ الأدب العربي المشارك بجامعة كوبنهاغن عواطف جون ضاحي.

تتنوع كتابات «تورب» بين السرد القصصي والرواية والشعر، الأمر الذي أكسبها مكانة رفيعة في الأدب الدنماركي، وحازت العديد من الجوائز التقديرية، وترجمت أعمالها إلى لغات عدة، كما أسهمت في تأسيس جمعية الصداقة الدنماركية الفلسطينية في عام 1988، وحصلت من بلادها على منحة التفرغ مدى الحياة للكتابة الإبداعية.

على كثرة الكتابات العربية عن تورب وروايتها الأحدث، فقد دارت في فلك الحديث عن علاقة الشرق بالغرب، الأبيض والأسود، وإمكانية تلاقيهما، فيما نقرأ «إله الصدفة» هنا، كرواية مكان بامتياز، تنقلت أحداثها بين غامبيا «غرب إفريقيا» والعاصمة الدنماركية «كوبنهاغن» وعاصمة بريطانيا «لندن» وجاءت «كوبنهاغن» بتفاصيلها في أكثر من ثلث الرواية المؤلفة من 375 صفحة. تدور الرواية حول «ماريانا» ولقبها «نانا» التي تعمل في مؤسسة كبرى تدعى «روار» وتنجح في اقتناص إجازة إلى غرب إفريقيا، غامبيا تحديداً، لتلتقي فتاة فقيرة تسمى «مارياما» تبيع الفاكهة والحلوى على أطراف الفنادق السياحية الكبرى للسياح الأجانب الذين تصفهم الرواية ب«الغزاة الذين يعبدون الشمس»، وتنشأ بين مارياما ونانا علاقة إنسانية، حيث تتعلق الأخيرة بالفتاة التي تتحمل مسؤولية الإنفاق على عائلتها وتسكن لدى خالتها «روز»، وتفكر المرأة الأوروبية في تقديم المساعدة للفتاة الإفريقية، وتقرر نقلها إلى أوروبا. عن طريق مساعدة شخصين آخرين «بن» و«بياتريس» تنتقل مارياما إلى لندن، وتصطحبها نانا، لتكتشف مدى الفجوة بين الثقافتين، وتفشل في الاندماج مع المراهقة الإفريقية القادمة للبلاد الشمالية، فيما تعجز مارياما عن التأقلم مع الحياة الجديدة، وتنتهي الأحداث بالفراق بين الطرفين؛ وكأنها تؤكد المقولة القديمة «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا» لتصبح هذه المرة «الشمال والجنوب غير قابلين للتعايش» وتسقط الرواية في فخ الرؤية الاستشراقية المنمطة لحياة الشرقيين في الروحانيات، فيما يعيش الغربيون تحت أسر المادية الحديثة، التي تلخصها مارياما بقولها «ستسرق كاميرتك روحي وأنا لا أبيع روحي بالمال»، ونتيجة لهذا التناقض لا يتعايش الأبيض والأسود معاً. تعيش «نانا» الشخصية الطيبة التي ولدت في الأصل من عملية تبرع أحد الغرباء بالنطفة، عزلة في الدنمارك، ف«ليس لي أحد» بقولها، وتنزعج كثيراً من اقتراب الغرباء، كرد فعل على طريقة إنجابها «لم نخلق من الحب أو العاطفة ولا العنف؛ بل من إنجاز علمي في محيط إكلينيكي بارد، لم تستطع الكف عن التفكير في كلفتها، فيما لو كان والداها قد حصلا عليها بسعر مخفض من الصديق»، وتبعاً لهذه العزلة تنجذب السيدة الغربية إلى فتاة غامبيا، والمتشابهتان في الاسم «ماريانا» و«مارياما»، وتجد في مساعدتها وإنقاذها من الفقر ملاذاً لروح نانا من الحياة التي تعيشها في كوبنهاغن تحت سيادة العمل وقوانينه، وفي محاولة لتلمس الجانب الإنساني الذي يتساقط تحت وطأة استعباد العمل باللجوء إلى الفقراء، أو بعبارة «بياتريس» «أملنا الوحيد أن نصير فقراء من جديد، الفقر وحده الذي يمكن أن يعيدنا إلى الطريق كبشر في عالم إنساني». إذاً، تتقاطع حياة «نانا» مع تفاصيل المدينة كوبنهاغن، فكلاهما يرزح تحت سيطرة العمل وقوانينه ونظامه، والأخير قد يكسب المدينة شيئاً من الجمال لكنه إلى الحد الذي لا تطيقه روح الإنسان المنطلق: «كل ما هو كان يشير إلى نظام لا يتواءم مع الاضطراب في داخلها» وتتنقل الذات الساردة بالوصف المشهدي لمناطق وتفاصيل العاصمة الدنماركية، بدءاً من منطقة «جيميني ريزيدانس» حيث تسكن نانا، وبروكن، ونورابرو، وجسر اللانك برو، مروراً بمنطقة فريديريكسبيرغ، وتناول الغداء في كوستم هاوس على جبهة الميناء ووصولاً إلى مبنى «روار» محل عمل ماريانا. «روار» هو السيد في كوبنهاغن، وقوانينه تقريباً هي السائدة في حياة «نانا» والمتحكمة فيها، ويصير المبنى الزجاجي عائلتها، وحياتها وكل وجودها، والذي تستمد الحب والدفء منه، بينما تحصل «روار» على روح نانا كمقابل، بعبارتها وتعيش «عبودية عصرية»، وتتجلى كوبنهاغن تحت Unternehmensknecheأي الاستعباد، وترفض نانا الارتباط فتتزوج من العمل، على حد قولها، كما تقرر عدم إنجاب الأطفال جرياً وراء وهم التحرر وعشق الحرية، وهو ما يفككه صديقها «هانس» بقوله «يستغرب المرء أمراً أننا نحن عشاق الحرية نربط أنفسنا عبيداً للعمل ونسجن أنفسنا داخل أقفاص الزجاج».

ورغم قلة المباني الزجاجية في الدنمارك عامة، وتشابه الطراز المعماري على طول المملكة، لكن آثار التفوق الرأسمالي للإنسان الأبيض تظل كامنة تحت سطح الجلد، حتى داخل «نانا» الطيبة حد الملائكة، فخلال اصطحاب «مارياما» بعملية التسوق تقول المرأة الدنماركية التي تنفر من سلوكيات الأفارقة وطباعهم «الخط ليس واضحاً هنا، أنا محاطة بالشياطين» ليطفح استعلاء الأوروبي على سكان النصف الجنوبي من الكرة الأرضية. ونتيجة لدخول مارياما حياة نانا، تضطرب علاقة الأخيرة بالعمل وبزملائها وقياداتها داخل مبنى «روار»، فيجتمع فريق العمل لبحث التغيرات التي طرأت على حياة «نانا» حيث «تداخلت الوجوه ببعضها بعضا وصارت وجهاً واحداً، تحركت الأفواه بتزامن، لم يكن لديها أدنى شعور بكيفية تقييمهم لها، من الذي كان متشدداً ومن كان ليناً» وفي الاجتماع «كان لدى كل منهم 30 ثانية ليطرح رأيه حين يأتي دوره، تذكر بوضوح تسلسل زملائها وأمكنتهم حول الطاولة، إيرك، كاما، هانس، جيرت، لكنها لا تذكر من قال هذا وماذا قال ذاك، كانت تصريحاتهم تقريباً متطابقة: روح الفريق الواحد لديها ضعيفة، نقص في الحماسة (حب«روار») تقصير، الحلقة الأضعف حالياً» التشابه في الحديث إشارة دالة على غياب التمايز، والاختلاف، فالكل يجب أن يكون في خدمة روار، ويكتفون بأسمائهم التي حفظتها نانا، كنوع من الاحتفاظ بالوجود بالمعنى الأنطولوجي، في ظل عملية محو مقصودة من قبل المؤسسة الرأسمالية، التي لا تكتفي بمحو الأسماء فقط؛ وإنما تعمل على محو الملامح الذاتية وتمايزها، وصولاً إلى اللاملامح، كخطوة تصل بالإنسان إلى العدم، والتخلي هنا عن السمات الفردية ليس طوعاً أو إرادية؛ فأي إرادة تلك لمن تحول إلى أداة وجودها تنفيذ التعليمات والارتقاء بالمؤسسة؟ ف«لا شيء خاص ما دمت في حيز روار» بقول الرواية. تكتسب «إله الصدفة» خصوصية لتناولها موضوعاً حساساً وشائكاً في تاريخ السرد، وتاريخ الثقافة الإنسانية من ناحية، ومن ناحية أخرى، ابتعدت لغة الرواية عن التهويل والإنشاء والمباشرة، وغدت مشاهد فنية تصور الواقع اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، ضاربة بعمق في نفوس الشخصيات الرئيسية، التي تنسج خيوط الحكاية، غير ناسية الكاتبة أن تحمل لغتها برؤى فلسفية عن العمل والوظائف، والعلاقات الإنسانية، والعلائق الحاكمة لطبيعة الأبيض والأسود.

عن صحيفة الخليج

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم