لم تصدق نبوءة عن خرابنا مثلما صدقت نبوءة الشاعر كافافي في قصيدته ( المدينة ) إذ يقول: (ستؤدي بك السبل دائما إلى هذه المدينة فلا تأملن في فرار إذ ليس لك من سفينة ولا من طريق وكما خربت حياتك هنا في هذه الزاوية الصغيرة فهي خراب أنى ذهبت ) في تلك الزاوية الصغيرة، في ركن الغرفة المنخفضة السقف، المنفتحة على الزقاق ثم الشارع الذي يتوسط مدينة الغبار الممتدة من القناة حتى السدة الترابية، تقف وسط ذلك الشارع الأثير ترمي ببصرك ليصطدم بحدود التراب مستعرضاً حدود مملكتك بواجهات منازلها التي بلون الحصاد. لكنه حصاد بلا سنابل ومدينة بلا تاريخ ولا متحف ولا فندق ولا وجه شبه بتسالونيك أو أثينا أو قبرص أو بيروت فهي ليس لها ساحل أو جبل، لا مركب ولا ربابنة، كانت في زمن ما فلاة لصيد الأسود التي انقرضت قبل أن تكون. لكن لها قمراً حقيقياً يجعل من ليلها نهاراً. كلما اعتمت أرضها تألق قمرها في السماء ففرش أرضها بضيائه الفضي فهل يكفي هذا يابن زوال وأنت المنشد إلى الليالي المقمرة والروح التي لا تحتفي إلا بالقمر (آه أيتها الروح الهائمة المهاجرة من بلادي، كم من الأرواح تهوم في سماواتك يا بلادي، هل ضاقت سماواتك أيضا..!؟) . ماذا تبقى من تلك الليالي يابن زوال غير القمر الأعزل المحجوب بغلالة دخان ابيض وتراب السرفات وعويل بعيد، عويل مديد، أين اختفت يابن زوال أغاني آخر الليل وأين صار الغنج القديم..؟ خناجر سود تطعن خاصرة الفرح وطيف باهت لذكرى قديمة يطوف في شوارع أكل كلسها الزمان المتربص في تلك الأنحاء التي تنام على ذراع بغداد التي تلوح لك عن بعد والتي حين تودعها كل مرة تشعر بأنها سرقت شيئا منك شيئا تبقيه رهينة عندها لحين عودتك ثانية (بعد أن تسرق مني ذلك الشيء، لا أجد غير الصحراء تطبق على روحي، تحيلني إلى كائن وحيد، مهجور، تائه في جنون كثبانها المتشابهة، تتلاشى من رأسي كل الاتجاهات.. إلاّ اتجاه (بغداد)، يظل بوصلتي التي تنقر في راسي مثل عصفور مهووس بالنقر حتى أعود إليها.. وهناك على بواباتها، بواباتها المحروسة بالمتاريس وعيون ضفادع الانضباط العسكري، العيون التي تقذف إثما، وتشعرك دوما انك مذنب وسيلقى عليك القبض حالاً.. هناك فقط، أودع الصحراء التي تسف في روحي، وتأخذني رائحة المدينة في نشوة مبهمة) . كيف استطاع ابن كطافة أن يجمع عيون ضفادع الانضباط العسكري وعيون الناس الطيبين في حي الأكراد وعيون صبايا قطاع 62..؟ كيف استطاع أن يجمع عصي رجال الانضباط العسكري القاسية والسواعد النحيلة لصبايا مدينة الغبار ليحشرها في رأس ابن زوال..؟ رأسه هو المسكون بلياليه التي لم تعد سوى ذكرى قديمة. ذكرى من زمن أسطوري كان يوما حقيقة واقعة لأعراس تدوم حتى الصباح، وأغانٍ تفوح برائحة الطين والقصب لا تعكر صفوها هجمات زوار الفجر غلاظ الملامح ذوي العيون الذئبية، ذلك هو فردوسه المفقود. فكيف يستقيم أن يهرب من فردوسه وماذا تراه سيحمل في زوادته في منفاه غير لياليه..؟ لياليه التي تغنيه ليتخلص من بقايا تسالونيك على عتبة السفينة المغادرة لتلك المدينة التي لايودعه فيها أحد والتي ودع فيها ليال ليست له، ليال لم يخربها أحد كونه ببساطة كان يحمل خرابه معه يحل معه حيثما حل أو أرتحل، لياليه تلك مررها عبر مرشح الذاكرة ليخلصها من بقايا الخراب فلم يتبقى فيها غير ليال قمرية يشع فيها قمر لا يشبه أقماره في المنفى، الأقمار التي لا تحمل من صفات القمر سوى الاسم (لعل الأرواح لا تحتفي إلا بالقمر). فكم من أرواح هائمة تركها ابن زوال في فردوسه المفقود ذلك الذي حل فيه الخراب دون أن يطال قمره. وقمره هذا رغم سناه الفضي لم يستطع أن يضيء مساحة الخواء في رؤوس رجال منظمة الحزب الحاكم الذين يجوبون الأزقة المتربة، ليدخلوا عنوة بيته فيصرخ في وجوههم ويطردهم، ليهرب مجبوراً نحو جبهة الحرب الضروس. تلك التي أكلت الناس تحت ضجة الأناشيد، ليهرب منها قبل أن يجمع أشلائه مأمور من وحدته يطمح بمأمورية ليومين أو يعود بساق وحيدة. بل عليه أن يهرب من الوطن نحو المنفى ثم ليهرب من منفاه نحو تخوم الوطن ليعيد توازن الأشياء مقاتلا بإرادته. دائرة من الهروب قبل أن يستقر متقمصا شخصيات (ليالي ابن زوال) فيتداخل ابن كطافه في ابن زوال وشخصيات أخرى تلك الشخصيات هي شظاياه التي لم تسعفه في استعادت لياليه المفقودة، حتى أنه راح يقارن ليالي البندقية الايطالية بدروبها المائية وقنواتها الساحرة بمدينته التي تمتلئ بمياه المطر التي لم تجد لها طريقا للتصريف فتستحيل بركا ساكنة، لكنها مدينته تسهر صورتها في لياليه ولم يستطع أن يزيلها من ذاكرته تلك الذاكرة المزدحمة بالحوادث . في تلك الزاوية الصغيرة ما الذي تركه ابن كطافة غير الغبار والبرك الأسنة، وما الذي خربه هنا هل هو لغز أم أحجية غامضة علينا أن نحل خيوطها؟ تلك الزاوية الصغيرة هي قطعة القلب من ذلك الكيان الذي نسميه الوطن وذلك الخراب هو الخراب الأصيل حين عجزنا من أن نحل معادلة وضعه على خارطة الجمال فيا له من خراب أصيل..!!

• ليالي ابن زوال رواية للكاتب العراقي المغترب كريم كطافة صدرت طبعتها الثالثة عن منشورات المتوسط/ بيروت- ميلانو. • ابن زوال الشخصية الرئيسة في الرواية. • المدينة المشار أليها هي مدينته؛ مدينة الثورة والمشهد هو سبعينيات القرن الماضي. • كل ما جاء بين قوسين هو مقتبسات من الرواية.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم