خرائط لوسط القاهرة
تجيء رواية «أن تحبّك جيهان» للروائي المصري مكاوي سعيد، والصادرة حديثاً عن الدار المصرية اللبنانية، بعد انقطاع دام ثمانية أعوام عن أخر إصداراته الروائية «تغريدة البجعة»، منحوتةً شاهقة الضخامة، ببنائها الفنّي السلس المتدفِّق، وبشخوصها، بكل ما فيهم من بساطة، وجمال وقبح، بأحلامهم وتشوّهاتهم، وبأماكنها التي يكاد القارئ أن يستحضر روحها وهو يتماهى مع حضورها الروائي المكثَّف، خاصّة في تلك المشاهد الأخيرة من الرواية عن ميدان التحرير وما حوله من شوارع متفرِّعة منه في منطقة وسط البلد الأثيرة لدى مكاوي، حيث يقف، كشيخ حارة، حارساً ومؤرِّخاً لناسها وحواديتها التي يجيد القدرة على حياكتها بمهارة في نسيج روائي يغلب عليه طابع الحكي، كما كانت تمارسه الجدّات. تأسر القارئ الحكايات فيلهث وراءها، يتبع سيرة أبطالها، يشفق على بعضهم، ويتعاطف مع البعض الأخر، يشغف منبهراً من الحيوية الهادرة والتدفُّق في حيوات بعضهم، ويمتعض من سلبية البعض الآخر، لكن- في المجمل- لن يكره أحداً منها. يحكي لنا المؤلِّف عن «ريم مطر» سليلة أسرة أرستقراطية غابرة، تهدّدت جدران حياتها مع مشهد انتحار الشاب الوحيد الذي لفت انتباهها، دوناً عن غيره،والذي استطاع أن يسترق النظر إليها مَرّة واحدة، وكم توسَّلت للقدر أن ترى وجهه وملامحه قبل أن يموت، وكان لها ذلك، فترى ملامحه، للمرّة الأولى والأخيرة، عقب إطلاقه الرصاص على دماغه داخل صالة القمار التي كان يصطحبها إليها والدها في فترة مراهقتها. ريم، بتركيبتها النفسية شديدة التعقيد، والتي حينما تلجأ إلى طبيبة نفسية، تصعقها بعدد الرجال الذين عشقتهم أو ضاجعتهم، وحينما تسخر منها الطبيبة تلقِّنها درساً لا تنساه، وتهمس في أذنها- وهي تراقص زوجها- بأنه أحد عشّاقها الذين زهدتهم، وألقت بهم في عرض الطريق. امرأة شبقة، واقعة- دوماً- تحت تأثير عالمها الغيبي، فتنصت لعرّافة تخبرها عن سبع شخصيات مشابهة لها سوف تقابلها في حياتها، وتحذِّرها من دم كثيف ينتظرها في النهاية. ريم المتأرجحة بين شغفها الفني وعالمها الغيبي، تتزوّج من أستاذها الذي يوهمها بأنه سيصنع منها نجمة متألِّقة، فتترك معهد الفنون المسرحية وتتزوجه، ثم تسافر معه إلى الخليج، وتكتشف بؤس اختيارها، لكنها لا تتخلّى عن حلمها الفني، وتحاول إنشاء أكاديمية فنية للتمثيل والرقص، وتكاد تقتل شقيقتها وزوجها لتحقيق مشروعها. ريم، بكل ما فيها من تقلّبات الفنّان، شخصية مصابة بالقلق والاضطراب والفوضى، متوتِّرة، منعزلة، متمرِّدة، ذات رؤى سوداوية في بعض الأحيان، محمَّلة برموز العدمية والتمرّد والخلاص، تهجر «أحمد الضوي»، الرجل الوحيد الذي أحبَّته بحق، حتى خافت أن تتعلَّق به إلى الدرجة التي لا تستطيع فيها الاستغناء عنه، فتتركه قبل أن يتركها. ريم شخصية حقيقية من لحم ودم وأعصاب عارية تحت الجلد، نَحَتها مكاوي سعيد بحِرَفية فنّان يجيد تطويع قطع الصلصال أو النحاس وجرانيت أسوان، الوردية فيحوّلها إلى تشكيلات تدبّ فيها الحياة، يمنحها من روحه فتصير كائنات حيّة تتنفّس، تفرح، وتحزن، تجفل من الحياة حيناً، وتُقبل عليها حيناً آخر، تماماً كما كان بطله «تميم»، النحّات الشاب زوج «جيهان العرابي». تميم لم يمت إلا حينما فقد الإيمان بنفسه، حينما وقع أسيراً لسيرة المَثَّال محمود مختار، تماهى معه واقتفى أثره محاولاً استنساخ حياته وتجربته الفنية: فكما أصيب محمود مختار، لبعض الوقت في حياته، بإصابة في يده، كذلك تميم، اختار كتلة شديدة الضخامة والعلو من الجرانيت لينحت تمثالاً للإسكندر الأكبر، وهو نفسه تمثال ضمن ثلاثة تماثيل أخرى عن شخصيات كلّ من أحمد عرابي، والإسكندر، وأم كلثوم. رحل مختار قبل أن يتمّ تماثيله، كذلك رحل تميم، لكنه خَلَّف وراءه عملاً مشوَّهاً أكبر من قدراته، ممتلئاً بالأخطاء والعيوب: إصراره على إبراز عملقة التجسيد التي امتلكها مختار وأجداده النحّاتون الفراعنة الذين تركوا منحوتات عملاقة، هي شواهد على وجودهم التاريخي، بعكس البدو، فثقافة البدوي، كثير الانتقال وراء الماء والكلأ ومواطن الرعي، أجبرته على اللغة كوعاء حامل لثقافته التي يحملها معه أينما ارتحل، في إرثه الشعري، هذا الكره الذي تجلّى في فشل تجربة تميم في تحويل الفضاءات المحيطة بالناس، في حياتهم اليومية والعادية، إلى تشكيلات جمالية، وكان مشروع فندق الفورسيزون قد أستضاف (تميم) للمساهمة في إثراء الفندق بالأعمال النحتية والتشكيلية تحت إشراف مدير الفندق الإنجليزي، واجتهد تميم في استحضار لمساته الفنّية السحرية في كل مكان، نجح في ترك الدهشة والإعجاب لدى الجميع، ابتكر حلولاً ولمسات فنّية جمالية، حتى على الطهاة، في مطعم الفندق الكبير، واقتنى أعماله العديد من المشاهير، وعلى رأسهم «أحمد محمد حسنين هيكل»، لكنه فقد كلّ ما حقَّقَه من شهرة ونجاح وأضواء حينما تحوَّل إلى مجرَّد خادم، ينفّذ- بخنوع وطاعة- رغبات أمراء وأميرات الخليج، بتصميمه للحلي، وتخلّى عن فنّه الذي ميّزه وتفرَّد فيه. تتدهور حالة تميم العقلية، وكذلك حالته الجسدية، ويفترسه رهاب الموت. ورغم شفاء يده من الإصابة التي ألمّت بها إلا أنه كان قد فقد إيمانه بنفسه وبقدرته الفنّية، وتشابهت حاله كثيراً بحال المثّال «جمال السجيني»، في شكواه من عدم فهم الآخرين لطبيعة الفنّان التشكيلي على مستوى الواقع، ومن عدم الاعتراف بفنّه وأفكاره، ولتنتهي بتغييب الفنّ كلّه، حينما فاجأ العالم، في أحد صباحات صيف عام 1969، بإلقائه مجموعة من منحوتاته في النيل، وهو يبكيها. مات تميم في ميعة الشباب بعدما جفّت لديه مصادر إيمانه بنفسه، وماتت معه زوجته جيهان العرابي: ليس موتاً مادّياً، بل موت صورة الفنّان (تميم) والأنموذج الذي صنعته، وأخذت بتغذية مثاليّته وكماله، بينما لا تستطيع هي- شخصيّاً- تحديد أهدافها في الحياة بشكل واضح! حبّها لتميم فيه جانب كبير من أسطورة بيجماليون وعشقه لمثال خَلَقه بيديه، لكنه- في النهاية- كان مجرّد تمثال لامرأة، ولم يكن امرأة حقيقية. أما «أحمد الضوي»، المهندس المعماري، فشخصية شديدة السلبية، لم يستطع الخروج من جلباب خاله الشيوعي ولا من الصورة التي وضعتها أمّه فيها بديلاً له، حتى في علاقته الثنائية بكل من ريم مطر وجيهان العرابي، فكان طوال الوقت ردّ لأفعالهما، لم يتجاسر لحظةً ليمتلك زمام المبادرة، في أي وقت في حياته، ورغم ضيقه أغلب الوقت من ريم وتقلّباتها المزاجية والنفسية إلا أنه لم يستطع اتّخاذ قرار هجرها، بينما هي أهانته وهي تبتعد عنه، كذلك الأمر في علاقته مع جيهان: يتخاذل دوماً عن إخبارها بمشاعره كمراهق خجول، فعل إيجابي اتّخذه بإرادته الحرّة لحظة اقتنصته رصاصة غادرة، يوم معركة الجمل، في ميدان التحرير، بينما جاء «عماد صدقي»، بكل تناقضاته ومحملات مهنته الشرطية، أكثر حيوية وتدفُّقاً من الضوي، يملك شجاعة التمسُّك باختياراته، ويستمرّ فيها إلى النهاية، مهما كان الثمن الذي يدفعه، سواء في علاقته بكارولين التي أحبّها بشدّة وأراد الزواج بها، أو في تراجعه عن علاقته بفتاة صغيرة أرادت استغلال منصبه ونفوذه. حتى مع اندلاع ثورة يناير يظلّ متمسِّكاً بقناعته عن الفوضى التي تسبِّبها المظاهرات والشباب الصغار، بل كان «عم امبابي» عامل المشرحة أكثر تفاعلاً وقدرة على الفعل، حتى مع جثامين المشرحة، بما يمنحها من ودّ وحميمية، أكثر بكثير مما يفعل الضوي. رواية «أن تحبّك جيهان» حالة من البوح والاعتراف والتدفُّق السلس والتداخل بين الهمّ العام والهمّ الشخصي، شجوية تُدين نفاق الطبقة الوسطى وهشاشتها، انفصالها عن واقعها والتعامل معه من خلال مرايا الذات لا بكينونته الحقيقية، خارطة إنسانية نفسية اجتماعية لمواطني جمهورية وسط القاهرة، نَحَتها مكاوي بما يمتلكه من مفاتيحها وأسرارها.
عن مجلة الدوحة
0 تعليقات