تقصّ شهلا العجيلي في روايتها الثالثة «سماء قريبة من بيتنا» حكايات النساء، كما في روايتيها السابقتين «عين الهر» و»سجاد عجمي»، تحاور نساءها، تستنطقهن فتبرع في الكشف عن أدق الخفايا والأسرار : ضحكة جدّة جمان وهي تقرأ لها من كتاب «الإمتاع والمؤانسة»، مشاعر نبيلة الأرملة التي عرفت الحب بعد طول جفاف، معاناة المرض وخوف جمان من الموت والمشاعر الحقيقية النابعة من القلب بلا زيف، هروب ليلى مع صادق المدلّك، تضحية سلمى بهدية أمها، آية كريمة تعلقها في جيدها كما التعويذة، في سبيل الحب، هانية واختلاط الدماء في عروقها عربية وآسيوية وأميركية... نساء (العجيلي) عاشقات بديعات يختلقن العشق والفرح في أقسى المواقف والساعات، حتى» جود» لم تتورع عن عشق المجاهد الأفغاني الدخيل على الرّقة، تماماً كما جاء في النص الأوغاريتي السوري الموغل في القدم: «حياة دون فرح، أي ميزة لها على الموت؟»

تقول الراوية: «في العقل خريطة للحب، تبدأ بتجميع صور من نحب، منذ ولادتنا، وتستمر في فرزها عبر تاريخنا الشخصيّ، وفي لحظة ما يكتمل «الكولاج» ويظهر الحبيب. «هكذا كانت رواية شهلا العجيلي نتفا من الذكريات الجميلة والحكايات المتناثرة عبر سنوات «جمان بدران» جمعتها كما النجوم لتزيّن بها السماء : «ولو وصلت بقلم بين النجوم المستقرة فوق، لحصلت على الدبّين الأكبر والأصغر....» عندما نعشق نتذكر، وعندما نمرض نتذكر، وعندما نقترب من الموت نتذكر، كأنما لنتأكد بأننا كنا يوما على قيد الحياة، وأن لنا تاريخا، وأننا نتعلم ونكبر. «سماء قريبة من بيتنا» تنقلنا مع «جمان بدران» لنشهد على حياتها، وننصت الى حكاياتها، فحين نتذكر تقترب السماء منا أكثر كأنما لتحنو علينا، فكل ما مضى أي فات وانقضى، هو صورة من صور الموت الذي يدفعنا الى الحياة، ولكننا نتمسك بالماضي والذكريات لأنها وإن ابتعدت، تركت في شخصياتنا وفي قلوبنا ونفوسنا حياة، هي جزء لا يتجزأ من الذات. تسترجع «جمان « ذكرى ما، مع كل ما يحدث و يمرّ معها، وتعيش مع كل لحظة بعضاً مما انقضى، كأنها تريد أن تؤكد على أنها ما زالت على قيد الحياة وأنها مخلصة لا تنسى. وإن كان الربيع يعود والشتاء أيضا يعود، والخريف يودعنا ولا يبقى، والصيف يعرّي للشمس كل الخبايا ويتركنا لنتدثر بما يحجبنا عن السماء، فإنّها حين تقترب من بيتنا لا تُبقي شيئا خفيا ولا عشقا سريّاً، هي ذاتها السماء الرحيبة التي تضيق بوحشية البشر حين تعبرها الطائرات والأسلحة والقنابل المدمرة.. عندها تتمنى لو تبتعد كي لا تشهد الألم وكي تحفظ بين غيومها قصص جمان وسلمى وجود، علّها حين تمطر ترشق البشر بالأمل والحب. السماء قريبة من بيتنا، ترقبنا وتعلم القادم،ولا شيء يأتي محض صدفة، فهناك من يقدّر المستقبل ويعلم: فـأهل ناصر العامري جيران بيت جدّ جمان في حلب، ونبيلة جارة الدكتور رشيد، ويعقوب التقى جمان في بورتوفينو منذ زمن وهي طفلة، وهانية تموت بعد شفائها في حادث الطائرة المفقودة لا بالمرض الذي حاربته وهزمته. السماء تربط البشر بخيوط، مهما ابتعدت والتفت حول المدارات، فهي محكومة بخطى مرسومة، حيث لا نستطيع أن نجزم بمن هو أ قرب إلينا: السماء أم ما يسمّى بـ(سخرية الأقدار)! تبدو السماء قريبة من ذلك البيت الذي يقع في الشمال السوريّ، لكنها تدنو من قاطنته في الجنوب في عمّان، حيث تجمّع حكاياتها لتصنع الحياة. هكذا كانت الرواية مجموعة من الحكايات في عشرة فصول، تتداخل ولا يختصّ فصل بحكاية وزمان، إذ تبدأ بـ (ليالي الأنس) التي تعود إلى العام 1947 عندما ارتحل بهجت الحفار وزوجته مديحة من حلب الى دمشق مع ابنتهما شهيرة والدة ناصر العامري، التي توفيت يوم اللقاء في المطار والمطارات كما تشير العجيلي (سلالم الحكايات)، ليكون بعدها لقاء ناصر بـ(جمان بدران) واكتشاف الجيرة العتيقة التي جمعت ذويهما في حيّ محطة بغداد النوتوراكي، ثم يعيشان معاً حياة معلقة بالمرض والحب المؤجل المثقل بالألم والشغف. لقاء يفتح الباب للذكريات والحنين للسماء فوق البيت الذي يجمع الأهل والأحبة. «سماء قريبة من بيتنا» حكايات التهجير القسريّ، والمرض، والموت، ولكنها لا تلغي الأمل بالغد والحياة والحب.

كاتبة من الأردن * عن جريدة الدستور الأردنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم