فتّش الياباني يوكيو ميشيما عن البراءة الفتيّة والرومانسية المغبطة، غير انه رغب، وللمفارقة، في الكشف عن الطبيعة العقيمة لهذين البعدين.

والحال انه أراد - منذ البداية التأليفية وإلى نهايتها - أن يصوّر الميتات الملائمة لكل جمال إكتنفته يوميات البشر. ربما يمثّل ذلك المرمى الدافع إلى اقتراف الكاتب الياباني قتل النفس بأسلوب أمبراطورية الشمس الأثير والمعروف بـ "هارا كيري"، في الخامسة والأربعين وقبل نحو أربعين عاما، في 1970. ظَلّت التهلكة الطقسية في اقتناعه ممرّا إلزاميا إلى ولادة جديدة، إلى ما يشبه الإنبعاث من الرماد، وهذا في الأقل ما تخبره ملاحظة أهملَها على مكتبه قبل أن ينسحب طوعا، وحيث دَوّن أن "حياة الإنسان محدودة، بيد أني راغب في الحياة إلى الأبد". ربض ميشيما في شرقّيته العميقة على رغم إطلالة إراديّة على إرث الغرب الذي لم يسأم من تأمّله وفق منظور الشرق البعيد، ليحمل أدبه بذور خصوصية المنبَت. انساب صوته بين نصوص كثيرة، في الرواية والبحث والمسرح وسواها، وحيث تآلف الشخصيّ مع الإبتكاري والمثير للجدال مع العقائدي. كان ثمة روايات بالعشرات، شكّلت سلسلة "بحر الخصوبة" الموزّعة في أربع نوافذ، آخر حبات عنقودها. ها هنا كتب ميشيما عن الذاكرة التي تُظهرُ الأمور نائية جدا أحيانا إلى حدّ تصير غير مرئية، في حين تُظهرُها في أحيان أخرى، وكأنها هنا. حمل ميشيما لواء رواية العصر الحديث في اليابان وانتفض على تأكل الوطنيّة في بلاده ثم صمَت، وها هو يعود إلى الكلام من جديد في 2015 من طريق كتاب "كلمات ميشيما الأخيرة" الذي يستعيد آخر حوارين أجراهما، ويصدر اليوم في القشتالية لدى دار "أليانثا". نجد في الكِتاب مقابلتين منحهما لناقدين يابانيين على امتياز، أجرى الأولى كوباياشي هيديو في 1963، في حين أجرى الثانية فوروباياشي تاكاشي، قبل أيام يسيرة على إنتحار الكاتب. أما اللافت فأن يكون ميشيما كرّر في كنف الحوارين الإشارة إلى وصوله القريب إلى خاتمته الشخصيّة. يقرّ ميشيما في إحدى المقابلتين انه تلقّف هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية كصدمة عظيمة ليشعر من جرائها بضياع تام. نقرأ "بلَغ فيّ الحدّ إلى مقت التيار الرومنطيقي، ليدفع بي ذلك إلى الإقتراب من التيار الكلاسيكي، والحال اني كَتبتُ عندئذ "صوت الأمواج" ... لكن وعلى رغم معاناتي الهائلة، لم أستطع إنكار نفسي تماما".

هرب ميشيما من حلبة السياسة المُحبطة ومن شعور مرير استبد به في شأن بلاده الجاحدة، وبحث عن منفذ، ليقرّر على ما يشير "لعبَ دور مُمثّلِ التفوّق في الفن". وهذا ما جرى فعلا، وإن كانت المهمة العلنيّة بدأت عملياً قبل الإقرار الصحافي المُغمس بطعم الإنكسار، ذلك أن ميشيما لم يكفّ عن اختراع الإمتياز التأليفي، منذ السطر الأول. والحال ان الياباني وفي أحد بحوثه تمحور على الرواية وصدر في أواخر الستينات من القرن العشرين، إنتقد ما سَمّاه فكرة الرواية في صيغتها الأوروبية غير المُرضية. أقرّ بأنه أراد ومنذ بلوغه الخامسة والعشرين أن ينجز "رواية مديدة جدا" تتسع لمسار الحياة والوراثة والتبدّل بين الأجيال والتاريخ والملحمة وزمن الحرب. ربما يكون ميشيما عثر على بعض مبتغاه في "بحر الخصوبة"، غير أن معيشه ظلّ في أكثر من معنى، الرواية المديدة الوحيدة المستحقة. أراد معرّف الأقنعة يوكيو ميشيما أن تكون حياته مثلما تصوّر الجمال، أرادها قرينة ذاك الشيء الذي يحرقُ يدَكَ حين تتجاسر على لمسه.

roula.rached@annahar.com.lb Twitter: @Roula_Rached77 عن صحيفة النهار اللبنانية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم