كما في كل رواياته، يحرص دان براون على الكتابة وفق نسق يعزز فيه من الألفة بين القارئ وبطل الرواية الذي لا يتغير في مجمل أعماله، كما يسعى لإثارة الشكوك حول المؤسسات والمعتقدات الدينية وتحديدًا الديانة المسيحية.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

وكما في كل رواياته أيضًا، ففي رواية "الأصل" وهي الخامسة، سيكون الفنان بول غوغان صاحب لوحة "من أين نحن" والشاعر الرسام وليام بليك بمثابة اثنين من أبطال الرواية الحاضرين رغم غيابهم، وسيكون روبرت لانغدون البطل الذي يُحرّك حجارة الدينامو ويتحرّك كحجر بينها، أما المدينة التي ستدور فيها الأحداث فستكون برشلونة.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

روبرت لانغدون (الجوكر)

يلتبس الأمر على القارئ وهو يرى أن المدعو روبرت لانغدون يستحوذ على الحصة الكبرى في بطولة كافة أعمال الأميركيّ دان براون، وقد ينتابه الشك بأن الكاتب والبطل ما هما إلا شخص واحد، لولا أن مؤهلات لانغدون الخارقة تذكّر القارئ بالرجل الخارق (سوبرمان)، وهو واحد من كائنات الصناعة السينمائية الأميركية، التي حظيت بشعبية عارمة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الفائت، فالكاتب (براون) هو إنسان عاديّ وليس رجلًا خارقًا بطبيعة الحال، الا إنه يمتلك من المعلومات والخيال والأهداف ما يجعله يبرع في تصميم هذا الرجل لخدمة غاياته السردية وأهدافه التنويرية.

صمم الكاتب شخصية روبرت لانغدون على نمط "الجوكر" الذي يستطيع أن يحلّ مكان أي من الأبطال وقت لا يجد الكاتب مناصًا من قتلهم أحيانًا تحت عجلات الأحداث. "الجوكر" هو الشخصية التي تستطيع استئناف الرحلة وتعويض الأمكنة التي تشغر في السرد، ولقد صمم هذه الشخصية بحيث يستطيع إعادة استخدامها في سلسلة رواياته التي تهدف إلى تفكيك رموز الديانات وتحليل النظريات العلمية وإعادة النظر في بعض المسلمات والأنظمة التي رافقت تطور البشرية، فقد منح لهذه الشخصية لقب أستاذ في علم الرموز، كما جعل منها شخصية مندفعة مغامرة وذكية تستطيع الخروج بسهولة من المطاردات والفخاخ دون أن تكون عرضة للموت حال بقية الأبطال في أعماله، بالإضافة لذلك ولأجل إحكام التعزيز للألفة بين قرائه وأعماله فقد حرص على أن يقوم بأداء دور هذه الشخصية في الأعمال السينمائية نجم واحد هو توم هانكس، ليضيف البعد البصري للمشهد.

التسويق أم التشويق

يعتمد براون في أعماله على عنصر التشويق وهو ذو مقدرة هائلة على التحكّم في كمية الأدرينالين فيه، إلا إن القارئ يدرك وبعد أن يقرأ أكثر من عمل له، أن هنالك غاية تسويقية متفوقة على الأبطال النوعيين والنقلات النوعيّة المتلاحقة التي تحدث خلال السرد، فهو يوظّف تلك الذروات المتعددة في سياق يتضمن وصفًا دقيقا للمدن التي تدور فيها الأحداث، والأمكنة الدينية والسياحية في تلك المدن، كما يقدم عروضًا توضيحية لحيوات وأعمال شخصيات تاريخية، من فلاسفة وعلماء وفنانين.

تبدأ الأحداث من متحف جوجنهايم وتتصاعد فيه إلى واحدة من ذروات العمل حيث تخترق رصاصة رأس الملياردير والعالم المستقبلي إدموند كيرش، وذلك قبل أن يتمكن من كشف النقاب عن اكتشافه الذي سيغيّر وجه العلم إلى الأبد، لتتواصل الأحداث بالقفز من هاوية إلى أخرى بهدف إنقاذ كافة المتورطين بإمكانية التوصّل إلى عرض هذا الاكتشاف، والصعود من ذروة إلى أخرى بسبب الاكتشافات المثيرة والمفاجآت التي تتربص بالقارئ والأبطال معًا ليندفعوا لاهثين نحو آخر صفحات الرواية دون توقّف.

"من أين أتينا... إلى أين نحن ذاهبون؟"- السؤال الوجودي الذي يسيطر على الأحداث، والفكرة الذكية التي يبتدعها الكاتب الذي يدرك مدى الارتباك البشري حيالها وحاجته لفكّ رموزها، مع وعد ضمنيّ منه بوجود إجابة شافية ومختلفة ومفاجئة لهذا السؤال.

مكائد براون

يعمد دان براون إلى المراوغة لأجل طرح المعلومة في سياق التفافيّ، فبعد أن يطرح الهدف الرئيسي في الرواية ودون تمهيد يذكر، يقود القارئ نحو منعطفات زلقة، يعجز فيها الأخير ولشدة انحرافها عن أن يعود أدراجه نحو ما أثار اهتمامه في بداية الرحلة الاستكشافية تلك.

يتحوّل اهتمام القارئ فجأة من الفضول القاتل لمعرفة الإجابة على السؤال الرئيسي "من أين أتينا.. إلى أين نحن ذاهبون؟" إلى محرك البحث جوجل، فيشرع في البحث عن قطع فنية هندسية مثل قلعة "كازا ميلا"، وكاتدرائية "ساجراد فاميليا" الواقعتين في قلب برشلونة، ويذهب إلى ذات المحرك للبحث عن الشبكة الظلامية، التي تدور فيها الصفقات المشبوهة من قتل مأجور وتجارة ممنوعات، وعن مواقع إلكترونية مثيرة مثل conspiracy net ، وشخصيات تاريخية مؤثرة من فنانين وزعماء ورؤساء طوائف وأديان، خاصة وأنه أعلن في الصفحة الأولى من الرواية أن جميع الأعمال الفنية والمواقع المعمارية والحقائق العلمية والمنظمات الدينية المذكورة في الرواية هي حقيقية.

يضمن براون استرجاع الهاجس الأول لدى القارئ، ويحرص خلال تحويله من منعطف إلى آخر على إعادة التذكير بهدف الرواية وهو الإجابة على السؤال الوجوديّ الرئيسي، الا أنه وبذكاء شديد يقتطع نسبا متفاوتة من حصة الأدرينالين الضخمة الممخصصة لشيفرة هذا السؤال، لتتناقص شيئًا فشيئًا حتى في ظل التصاعد المريع للأحداث، وهذه واحدة من مكائد براون التي تؤمن له شفاعة الخروج بنهاية مرضية على الأقل.

عطفًا على ما ورد أعلاه، نخلص الى أن أدوات دان براون التشويقية تسير في خط متواز مع أدواته التسويقية، فلأجل الوصول إلى الإجابة الموعودة على القارئ أن لا يهمل ولو معلومة صغيرة تقوده إلى الاستنتاج أو التوقّع على الأقل، فالمغامرة التي يخوضها لانغدون هي لأجل البحث عن كلمة السر التي سيتمكن من خلالها بث هذا العرض على العالم وتغيير وجهة العلم والدين أيضًا.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

بطل رئيسي وأبطال أرستقراطيون

كما ورد سابقًا في هذا البحث فإن دان براون لا يتخلى عن البطل الدائم في جميع أعماله، الا إنه يحرص على توفير أبطال نوعيين، أرستقراطيين غالبًا، لمساندة البطل الرئيسي وإضفاء الفخامة على عمل يعتمد في كافة إحداثياته على أجواء سلطوية أرستقراطية ونفوذ.

هؤلاء الأبطال هم:

أمبرا الملكة المستقبلية لإسبانيا ومديرة متحف جوجنهايم، وهي الشخصية المؤثرة الثانية في الرواية بعد لانغدون، ورفيقته في المغامرة للنجاة بحياتها ثانيًا ولإيجاد كلمة السر أولًا، هي امرأة عاقر من الطبقة الأرستقراطية، تتمتع بجمال ساحر وحضور آخاذ يجعل من ولي عهد إسبانيا عاشقًا متيمًا مستعدًا لأن يكون آخر ملوك المملكة لقاء هذا الزواج الذي لن يثمر عن وريث.

فالديسبينو الشخصية الدينية البارزة صاحبة النفوذ، هو المقرّب من ملك إسبانيا ومستشاره، تحوم حوله الشبهات حتى نهاية الصفحات دون أن يدلي ولو ببيان واحد لإبعادها عنه، لأجل الحفاظ على سر بينه وبين الملك يريدان أن يحملانه معهما إلى القبر.

لويس أفيلا أميرال البحرية السابق والعضو المنتسب حديثًا للطائفة الباليمارية المنشقة عن الفاتيكان، والذي تعرض لحادث موجع أفقده توازنه ليصبح قاتلًا مأجورًا.

الذكاء الصناعي

لم يأت براون ببيان صادم حول الأصل أو التكوين الا إنه عاد لطرح بعض النظريات الفيزيائية والكيميائية التي تتعلق بنشأة المادة وتطورها، وأكّد ضمنًا على غياب عنصر مجهول ما ليدفع العناصر الممزوجة في الحساء الكوني لأن تنتج خلية بدائية، رغم ابتكاره لآلة الزمن الكفيل (حسب براون) بتطوير الحمض النووي الا إن نظريته لا تبرح منطقة الشك، كما أن إجابته حول المصير البشري لم تكن شافية، ولا تعدو كونها نبوءة لتفوق الآلة على الإنسان في وقت قريب جدًا، وهذا ليس بجديد أو صادم بل متوقع ومنتظر.

لأجل تعزيز هذه النبوءة عَمد براون إلى زجّ وينستون، وهو الناطق الرسمي والرئيسي والوحيد باسم مملكة التكنولوجيا الضخمة التي تمت الإشارة إليها والخوض في تفاصيلها. وينستون هو واحد من أبطال هذه الرواية رغم أنه مجرد جهاز ذكيّ طوره إدموند كيرش ليخزن فيه كل المعلومات التي خَلُصَ إليها بعد التجارب والأبحاث التي قام بها، ولا تقلّ أهمية وينستون عن إدموند كيرش نفسه ولا عن روبرت لانغدون، لا بل ويتفوّق عليهما وعلى بقية أشخاص الرواية، فقد برع براون في نقله وبحركة واحدة من مجرد ظلّ مرافق للشخصيات إلى شخصية مستقلة ذات ظلال متعددة، تسير على هواه ووفق خطته، التي رُسمت باحتراف شديد نتيجة للكم الهائل من المعلومات والحسابات التي تغذّى بها، ووفق استنتاجات لا تحتمل الخطأ.

لا يخرج القارئ من روايات دان براون خالي الوفاض، فهو ليس من الكتاب الذين يكتفون بحشو المعلومة العلمية المثيرة، بل يمنحها مكانة حيوية في جسد النص عن طريق دمغها بالأدلة وفكفكة تفاعلاتها ورموزها، ليستمتع القارئ مثلًا وهو يقرأ عن نظريات الحساء الكوني والنشوء دون أن يشعر بأنه يقرأ تقريرًا علميًا مملًا حول ذلك.

"الأصل" رواية الخيال العلميّ والصراع الأزليّ بين الدين والعلم، الا إنها تعتمد بالدرجة الأولى على القارئ الوجوديّ المتعطّش للمعرفة، ووحده دان براون من يستطيع التحكم بنسبة الأدرينالين اللازمة لخروج قارئه سالمًا من النص.

عن موقع ضفة ثالثة

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم