"رأيتني أسير مكتئبًا حتى دفعني اليأس لزيارة الشيخ الفلكي، وبعد الأسئلة المعتادة، عمل حساباته وقال لي: تعيش وحيدًا وتموت وحيدًا، فقلت له: لكني لست وحيدًا، فقال: أنا أعمل حساباتي ولا يخدعني الواقع"... يمثل هذا الحلم من أحلام نجيب محفوظ الأخيرة، بمثابة تلخيص للحالة النفسية التي اعترته وهو يملي الجزء الثاني من كتابه "أحلام فترة النقاهة"، حيث خيم على الأحلام جميعها شعور الوحدة والندم بالرغم من اشتمال بعضها على رغبة قوية في إرساء قيم العدالة الاجتماعية بين الناس، لكن الأخيرة تلك ربما تندرج –أيضًا- تحت بند بواعث الاكتئاب، حيث يبدو جليا أن تحقيق العدالة الاجتماعية في مصر بات صعب المنال.

الأحلام الجديدة، والتي تنشر للمرة الأولى، أصدرتها دار الشروق في القاهرة قبل أيام، تحت عنوان "أحلام فترة النقاهة: الأحلام الأخيرة"، كتتمة لكتابه الأول "أحلام فترة النقاهة" والذي صدر عن الدار نفسها، العام 2004، حيث وجدت ابنتاه فاطمة وأم كلثوم 297 حلمًا جديدًا في شهر مايو/ايار الماضي، أثناء ترتيبهما لغرفة أبيهما عقب وفاة أمهما السيدة عطية الله، والتي رحلت عن عالمنا نهاية العام الماضي.

ثمة تغيير واضح في أسلوب في صياغة الأحلام الجديدة، والتي أملاها محفوظ على سكرتيره الحاج صابر قبل وفاته، تختلف فيه عما ظهرت عليه في الكتاب الأول، ففي حين اتسمت أحلام فترة النقاهة الأولى بالبداية الوصفية للمشاهد، كتب نجيب محفوظ أحلامه الجديدة مفتتحاً معظمها بفعل "رأيتني أو وجدتني"، بالإضافة إلى الاختزال الشديد للمواقف والأحداث، كتأكيد على آلية نقل الحلم، دون رغبة في التعليق عليه سرديًا أو موضوعيًا، وكأنه يعري ذاكرته ونفسه أمام القارئ بغير مواربة أو انتقاء، بحيث تبدو الأحلام على اتصال مواضيعها وكأنها سيرة ذاتية خالصة لكل ما مر به محفوظ خلال سنوات حياته.

وبخلاف ما قد يظنه البعض، تعكس الأحلام ضيقًا واضحًا بطول العمر الذي تمتع به صاحب "عبث الأقدار"، فالأحلام غالبًا ما تستدعي أصدقاء محفوظ الذين يظنهم أحياءً ثم يكتشف وفاتهم أثناء أحداث الحلم، كذلك تشير الأحلام إلى وحدة عميقة شعر بها الأديب الذي لم تنفض مجالسه في ريش أو الحسين أو العباسية أو في الأوبرا، وندم كبير على تأخره في الزواج وتضييعه لفرصة الاقتران بمعبودته "ع" كما يسمها أو بحبيبته "ب"، مثلما يظهر في الحلم رقم "392" والذي يقول فيه: "وجدتني فجأة في خريف العمر وما أزال من ذوي الدخل المحدود وحولي بيوت سعيدة. كان من الممكن وبشيء من التفكير السليم أكون رب بيت منها ولكني أسير وحيدًا نادمًا على ما فاتني من فرص وآسفًا على المبادئ المتطرفة التي اعتنقتها". أو كما يقول في الحلم الذي حمل رقم "407": "رأيتني في حديقة الجيران كهلا يتذكر المرات التي أتيحت له ليتزوج ولكنها خابت، وها هو يقف وحيدًا أمام الزمن ويتذكر أغنيته المفضلة: "أراك عصي الدمع شيمتك الصبر".

وفي الحلم رقم "423"، تجتمع عليه حبيبتاه وأمه التي طالما رغبت في أن يتزوج، ولكنهم جميعًا يضيعون مع التيار: "رأيتني أسبح في مياه الشاطئ وعلى شيء من البعد رأيت أمي وأخواتي ومعبودتي "ع" وحبيبتي "ب" يسبحن فسبحت نحوهن ولكن ظلت المسافة بيني وبينهن كما هي أو ازدادت اتساعًا، حتى سمعت صوت أمي يحذرني من الغرق، فتوقفت عن السباحة ورأيت الأحباب يختفين في الأفق"، ولا يعدو الأمر مجرد بضع أحلام تتحدث عن تأخره في الزواج أو حبه الضائع لـ"ع" أو "ب" بل تشغل تلك الأحلام الجزء الأكبر من صفحات الكتاب.

يذهب كثر ممن عاصروا نجيب محفوظ إلى انتقاده لالتزامه الصمت تجاه سياسات الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، غير أن الأحلام تعكس رغبة قوية لدى محفوظ في إحداث تغيير يصب في صالح إرساء القانون والعدل وتحقيق العدالة الاجتماعية، ويتضح ذلك من خلال استدعاءات كثيرة لصورتي سعد زغلول ومصطفى النحاس، اللذين إما يحتكمان للقانون أو يحققان العدالة، أو من خلال أحلام أخرى تتحدث عن ثورات تقوم من أجل لقمة العيش نحو ماجاء في الحلم رقم "250" :" انتشر الفول السوداني إنتاجًا وتوزيعًا واستهلاكًا، وأصبح رجاله قوة في الوطن، وضاقت الحكومة بذلك فأصدرت قانونًا يحرم إنتاج الفول وتوزيعه واستهلاكه، وكان رد الفعل شديدًا فخرجت جموع المتظاهرين وعجزت قوات الأمن عن تفريقها فسقطت الحكومة وهوى النظام، وعاد ازدهار الفول ورجاله واستنبتوا أنواعًا جديدة غزوا بها العالم وتوفرت الأموال، فتصدى العهد الجديد بكل قوة وأمانة للمشاكل السياسية والاقتصادية والبطالة والتعليم والصحة، وسميت هذه الثورة فيما بعد بثورة الفول المباركة". أو عن استفحال الفقر مثلما يظهر في الحلم رقم "345": وجدتني أسير في شارع يبدو مرة كالعباسية وأخرى كالكورنيش بالإسكندرية، ورأيت رجلًا يخرج من أحد المطاعم مفرطًا في السمنة لدرجة لم أشهد مثلها في حياتي، وتزحلق الرجل فانحط على الأرض ولم يستطع الحركة، فأقبل عليه أهل الشهامة يساعدونه على القيام دون جدوى، وسألت أحد الواقفين عن هوية الرجل فقال لي: إنه الفقر".

أما عن موقفه من ثورة 1952، فإنه يبدو متداخلا مع رغبته في إرساء مبادئ العدالة الاجتماعية، حيث يؤكد لصديقه والذي طالبه بضرورة إنقاذ الملك من الثورة التي ستقوم ضده، أنه راض عن بعض مبادئها وأولها إلغاء الملكية، أو كما يرى نفسه في حلم آخر يقف تحت تمثال لعبدالناصر وقت إجراء مسابقة لإطلاق اسم على التمثال فيسميه "نصير الفقراء".

ثمة حلم أخير يجدر الوقوف إزاءه، ذلك الذي يحمل الرقم "459"، ويقول فيه عميد الرواية العربية: "رأيتني مع مجموعة من الأصدقاء نتسابق فوق متون جيادنا حتى بلغنا الميدان فتفرقنا وزدنا من سرعتنا، وإذا بجوادي يرتفع عن الأرض رويدًا رويدًا حتى استوى تمثالا من البرونز على ارتفاع شاهق"، ولا يعكس هذا الحلم الحقيقة الراسخة في تربعه على عرش الأدب العربي فقط، وإنما يشير أيضًا إلى حقيقة لا يلتفت إليها الكثيرون ممن تعاطوا مع إبداعه، وهي تلك الرغبة الحثيثة للتجريب على مستويي الشكل والبناء -في بعض أعماله- التي لم يسبق بها غيره فحسب، وإنما تفوق بها على من سبقه أحيانًا، وأحايين أخرى بدت بمثابة تعميد لهذا الشكل السردي الجديد، ففي خضم النزعة التجريبية أواخر الثمانينات، وفي الوقت الذي ثار فيه الأدباء على النموذج المحفوظي في بناء الرواية، أصدر هو روايته "حديث الصباح والمساء 1987" ببنية ملغزة وغريبة ليكون هو أول من يتجاوز نموذجه ويضربه في مقتل، وإبان التسعينات حين طغت الذاتية والرمزية أصدر كتابه "أصداء السيرة الذاتية" كنموذج فائق عن التجربة الصوفية والرمزية، كذلك الأمر نفسه يتحقق مع كتابه الأخير، ففي حين تزدهر حاليًا كتابة القصة القصيرة جدًا "الومضة"، يكون لنجيب محفوظ إسهامه الواضح بـ"أحلامه الأخيرة"، ولسان حلمه يقول :"وجدتني أعمل "مسحراتي" فأدق الطبلة وأمر بالبيوت وأدعو سكانها للاستيقاظ والاجتهاد لعلهم ينجحون ويجبرون بخاطري". عن صحيفة المدن

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم