تمتاز كتابة نبيل أبو حمد السردية بقدرتها على جذب القارىء لمتابعة أدق التفاصيل، كذلك تمتاز كتابته بالمباشرة والابتعاد عن اللغة المقعرة التي من شأنها أن تدفع بالقارىء إلى الملل.. ما تقدم لا يعني أن الرواية تتناول عناصرها بسطحية أو ضحلة المستوى أو أنها تنحى للبسيط من الهم المعاش، بل على العكس، فرواية «الرحيقيون» تتطرق وتعالج أصعب المشكلات التي نتعرض لها نحن أهل المعاصرة والحداثة، خاصة التعددية التي انتشرت بكل المجتمعات كسمة رقي، تقاس بها مدنية الإنسان أو مدى انحطاطه.. هذا إذا لم يقفز إلى مخيلتنا منظر قوارب المطاط التي تتراقص على أكف عفاريت موج البحر المتوسط ملقية بنفسها للغرب لجوءاً أو هلاكاً.. أو أولئك الذين يرمون أنفسهم في هجرة معاكسة للانغماس في لجة القتل تحت شعار تصنيف الناس بين كفرة ومؤمنين مستعملين حد السكين لإملاء اُحاديتهم من التعصب والعصبية. الرواية، إذن، تتناول من خلال مجموعة من الأفراد وفي مجتمع منفتح (باريس) حوار ثقافات من خلال إقرار بأن في كل فكر وأيديولوجية وعقيدة ومعتقد ناحية إيجابية أكيدة، فإذا ما جمعت هذه الإيجابيات في أيديولوجية مستقلة ومنفردة فإنها بلا شك سترضي كل الأيديولوجيات الأخرى.. هنا يبرز واحد من هؤلاء الأفراد مثلا حياً مستوحى من الطبيعة، وهو مثل النحلة التي تتنقل ما بين الأزهار والورود والنباتات والأشجار (المتعددة والمتنوعة) ماصة الرحيق من كل هذه المخلوقات النباتية لتفضي إلى إنتاج مادة لا أحلى ولا ألذ، اسمها الشهد.. وهذه المادة لا تحسب على أي من المكونات التي امتص منها الرحيق رغم تعددها من حيث اللون والشكل والعطر. لذا أحبوا أن يطلق عليهم اسم «الرحيقيون» انطلاقاً من مثل النحلة.. تنطلق الرواية من أربعينيات القرن الماضي حيث الموزاييك التراثي يرخي تنوعه على المجتمع بكل براءته وفطرته وجماليته وبالذات من مدينة دمشق (التي يسميها الشاعر نزار قباني مدينة الياسمين) ومن أين في دمشق.. من مدرسة «اللاييك» المدرسة المشهورة بعلمانيتها، التي تحتضن كل الطلاب مهما كانت أصولهم وأعراقهم وجنسياتهم ومعتقداتهم.. لتدرسهم مواد لها علاقة بكل ما سلف بموضوعية وعلمانية. أبطال الرواية متعددون لكن محورها اثنان، طالبة في اللاييك، يهودية الدين، لكنها لا تقر بديانتها، بل هي متحررة من الدين ومن تقاليد المجتمع وتحفظاته، وتحسب نفسها على أهل الأندلس، كون أصول عائلتها من قبائل المورو الذين هربوا مع العرب والإسلاميين إلى تركيا والمشرق.. كما أنها رافضة لدينها انطلاقا من مقولة ماركس: «ليتحرر اليهودي من عنصريته وعنجهيته وتمايزه الفوقي ويصبح إنسانا إنسانيا ومعافى عليه أن يتحرر من دينه». أما الآخر فهو شاب من مدارس الحكومة مواطن سوري مسلم نشأ في عائلة وبيئةٍ تعتز بعروبتها وتراثها وذات نزعة أدبية، فلذلك يبدأ منذ نضوجه بكتابة الشعر والروايات.. صدفة جعلته على اطلاع عن بعد على جرأة هذه الفتاة المنطلقة، التي لم يكلمها أبدا.. ومن ثم على مر الأيام والسنين حدث أن عرف الكثير عنها من خلال المصادفات والمعارف، ليبني نواة رواية عنها لتميزها، فيجمع كماً من التفاصيل عنها في مفكرة اثيرة وخاصة، كمادة لرواية جديدة ينوي كتابتها من خلال متابعته لهذه الغنسانة التي لم يقابلها او يكلمها سابقا.. حيث يصبح هو الراوي والكاتب لرواية «الرحيقيون». مع مرور الزمن وتغير الاحوال من سياسية واجتماعية وحدثية، يصدف أن ترتحل الفتاة إلى باريس تاركة قصة عشق ترددها دمشق، وبداية علاقة أخرى لشاب يرتحل معها إلى باريس للدراسة في «السوربون» كما أن الراوي الكاتب مع مرور السنين وبعد إصداره العديد من رواياته ومسؤوليته عن الصفحة الثقافية في جريدة لبنانية ينتقل أيضا إلى باريس مع الجريدة على أثر الحرب الأهلية الشرسة والموجعة في لبنان.. يحمل في نفسه قصته ونضجه وآثار الحروب والتحولات وتحمل في نفسها تجاربها وقناعاتها وتحررها وثقافتها.. يزمع أن يلتقيها شخصياً في باريس لتكمل معه فصول روايته التي حملها بمفكرته عشرات السنين وللوقوف على رأيها في ما دونه عنها وفي ما رواه الآخرون عنها وذلك احتراما للحقيقة كبادرة أخذ إذن منها قبل النشر. بعد بحث طويل يلتقيان ليكتشف إنسانة مفعمة بالمعرفة والثقافات والتراثيات والثورات وأيديولوجيات الحداثة.. كما أنها تقدمه لفرقتها أو مجموعة المتحررين المتعددين الملتفين على نظرية «الرحيقية».. ليصبح منهم حيث يلتقون مساء كل جمعة على ضفة نهر السين لتقضية السهرة هناك حتى خيوط الفجر يتبادل فيها البوذي والسنسكريتي والمؤمن والملحد والمسلم والمسيحي واليهودي والزرادشتي والإيزيدي ومن كافة الجنسيات حوار القبول والتفهم بهدوء وتسليم.. تحت عنوان «الرحيقية» أو «الرحيقيون».. السؤال الآن هل يظل من هو منفتح ومتقبل للآخر وللتعايش والانفتاح على كل الأديان والأعراق والجذور على حاله وهو في حالة الارتياح والاطمئنان ومجتمع السلام والترييح كما هو حين تسخن الساحة وتطل بوادر الأذى ومظاهر العنف؟ هذا السؤال تتعرض له «الرحيقيون».. وهو سؤال مطروح لكل القراء والناس من مثقفين حملة شهادات ومثقفين ثقفتهم الحياة وصقلتهم وحزبيين وطليعيين وأصحاب نظريات. دعنا نترك هذا للقارئ الذي يحب أن يطلع على الرواية وقراءتها.. لمقاربة النتائج.. أو ليسأل نفسه قبل الآخرين السؤال الآنف الذكر. الرواية ليست فكرية وكل ما ذكرته يستنبط من سير الأحداث والعلاقات الإنسانية ومجريات الأيام بطبيعتها التي تتعرض لها كأي حياة تحمل الجميل والمزيف والكريه.. أعني ما استنبط هو ما يخلص إليه من يقرأ بين السطور ويغوص في عمق مغزى الرواية.. تدعو الرواية إلى التجمع والتعددية في صفحاتها الأخيرة غير محبطة بما حصل من هزات وصدامات بطرح جديد هو ضرورة عدم الالتزام.. منطلقة من أن أي أيديولوجية أو فكر لا بد أن يتحرك مع تحرك الظروف والأمكنة.. فالالتزام المطلق هو نوع من التحنيط والقتل لأي أيديولوجية ولأي فكر.. فالرواية في منتهاها ترفع من أهمية الحرية وحق الاختيار طبعا ضمن مجتمع ديمقراطي. كتب مقدمة الرواية الناقد والكاتب السوري خلدون الشمعة. كاتب لبناني ماجد معروف عن صحيفة القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم