يسعى كتاب «المدينة الضحلة.. تثريب المدينة في الرواية العربية»، للناقد السوري صلاح صالح، والذي تناول أكثر من مئة رواية، إلى مراعاة التوزُّع الجغرافي للرواية العربية، ومحاولة اشتمال المساحة القصوى من هذه المساحة التي تنتج نصوصاً روائية سردت حياة المدينة الضحلة بوصف الضحالة مأزقاً اجتماعياً وحضارياً، وبوصفه مأزقاً وجودياً في حالات أخرى.

وفي تتبعه لما فعلته الرواية في المدينة، يعتبر أنَّ ملحمة «جلجامش» تمِّثل واحدة من أسمق ذراها وأثمنها وأندرها، وأكثرها اتِّصالاً بالجنس السردي الذي يرى بعض الدارسين أنَّ (المُدن) هي التي رعت نشأته، أو أنَّها كانت شرطاً لازماً لتطوره وازدهاره.

في حين أنَّ الثقافة التي أنتجتها المدينة العربية الإسلامية في المنطقة نفسها، كانت ذات طبيعة مغايرة، يكفي لتفسير تغايرها مجرد اختلاف واحد من اختلافات كثيرة، كاختلاف اللغة المؤسِّسة للثقافة، واختلاف الزمن، واتِّساع الفجوة الزمنية الفاصلة بين أوروك وبابل ونينوى، من جانب، والبصرة والكوفة وبغداد من جانب آخر.

وبينما احتفلت الرواية الأوروبية بجمال مدنها بوصفها خلاصاً، أو فرصة للخلاص، أكثر مما يمكن عد جمالها في المسرودات العربية انعكاساً لجمال قارٍّ في الواقع.

فالمدينة العربية كانت تعاني من ندرة الأنساق التي تسرد جمالها بصورة مباشرة، قياساً إلى سرد قبحها، لذا نعثر على أشكال مختلفة من سرد ذلك الجمال، مع إشارة ضرورية إلى أنَّ الجماليات المكتَنهة عبر الصياغة وآليات التخييل، أهم من الجماليات التي تُسرد بوصفها موضوعاً...

فالموضوع الجميل، أو الإقرار بجماليات الموضوع الجميل لا يعنيان أنَّ الأنساق التي تسرده بوصفه جميلاً هي أنساق جميلة بالضرورة، حسبما هو معروف في أبسط مبادئ علم الجمال، بل الأهم هو آلية التناول، وطريقة الصياغة، قبل أي اعتبار آخر.

من الروايات التي اشتغل الناقد صلاح صالح عليها بحثه: «فخ الأسماء» لخيري الذهبي، «مرسال الغرام» لفواز حداد، «حالة شغف» لنهاد سيريس، «تحت سقف واطئ» لنذير جعفر.

وعن حلب يشير الباحث صلاح صالح إلى أنَّ اختيار حلب لتسيير أحداث أوَّل رواية عربية «غابة الحق» من خلال انتساب الرواية وكاتبها (فرنسيس المرَّاش) إلى حلب بالمولد والنشأة، - اختيارٌ لا يمكن تعريته من الدلالة إنْ لم نذهب إلى أنه اختيار معبَّأ بالدلالة على مقدار مهم من التلازم بين المدينة والرواية، منذ بداية عهد العرب بهذا الفن السردي المستحدث في منتصف القرن التاسع عشر. فمثلاً..

وهذه من علامات التمدين، فإنَّ تأكيد المرَّاش في«غابة الحق» على نظافة المدن، يشي بعد النظافة شرطاً لمدينية المدينة، وإذا ما نظرنا إلى مدننا العربية المتوضِّعة على خريطة الواقع، نظرة مقيدة بذلك الشرط، فستنتفي الصفة المدينية عن المدن العربية جملة وتفصيلاً.

وربَّما.. لهذا السبب، لسبب افتقار المدينة العربية إلى الحد الأدنى المقبول من النظافة، أقلعت الرواية العربية عن سرد جماليات نظافتها، وانصرفت إلى سرد بعض جماليات العمارة القديمة تحديداً، وهذا ما اكتظَّت به أعمال إدوار الخراط، وخصوصاً «رامة والتنين» و«الزمن الآخر».

ويشير الباحث إلى نقطة مهمة في بحثه، وهي أنَّ المدن التي صنعتها الحكايات تبدو أجمل بفروق واضحة من مدن الواقع، ولنا في «ألف ليلة وليلة» وملحمتي هوميروس..

و«الحمار الذهبي» و«أقاصيص الديكاميرون» عشرات الأمثلة على مدن صنعتها الحكاية، مع ضرورة التفريق بين المدن التي عثر علماء الآثار على بقاياها وأطلالها، بفضل الحكاية، كطروادة، وبين المدن التي يبدو وجودها وقفاً على سردها التخييلي، كمدينة النحاس، ومدن واق الواق في «ألف ليلة وليلة» وسدوم وعمورة في «العهد القديم».

عن صحيفة البيان

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم