أحياناً، تحتاج قراءة الأدب إلى الكثير من الشجاعة، لأن الأدب الرفيع يذهب ضحيّة الملل والعجلة. إن القارئ غير المتمرِّس بأنواع أدبية مسالكها وعرة وقممها متمنِّعة، يستسلم، بسهولة، لإحساس خادع بالضجر. حينها يصبح الأدب ضحيّة ضعف القارئ أمام مشقّة القراءة، فيغدو مستعجلاً التخلُّصَ من الكتاب، وكأن فيه ضرراً أو خطراً.

يمكن قول الشيء نفسه عن رواية الفرنسي «ماتياس إينار، MATHIAS ENARD» الصادرة، مؤخَّراً، عن دار «ACTES SUD» الفرنسية، التي منحها ماتياس عنواناً ماكراً وملغزاً هو «بوصلة، BOUSSOLE»، التي تُعَدّ بحقّ- تجربة سردية مهمّة في تجربته ينتظر منها أن تتبوَّأ مكانة بارزة على منصّة الجوائز، العام 2016.

قلت إن قراءة هذه الرواية تعترضها معيقات كثيرة، أهمّها العدد الكبير من الأعلام المذكورة والمراجع الأدبية والفكرية التي لا تنتهي؛ مما يدعو إلى الاعتقاد بأن ماتياس يستعرض مداركه ومعارفه مقحماً إياها داخل جمل طويلة، تتداخل فيها الفصول والذكريات. ومع توالي الصفحات ندرك- بما لا يقبل الشكّ- أن هذا الأسلوب السردي استدعته الشخصية الرئيسية في الرواية: الموسيقي «فرانز ريتر» الملتجئ إلى شقّته في فيينا، يحاول، خلال ليلة مؤرِّقة، القيام بجولة رفقة مجموعة من هدايا السفر التذكارية التي تتحوّل إلى تأمُّلات وأفكار يتجاور فيها، جنباً إلى جنب، بلزاك مع عمر الخيام، وليسزت مع الكندي. ومن هذه الذكريات يبدأ البحث عن زمن الشرق الضائع، ومن هنا- أيضاً- تبدأ الرحلة إلى الشرق من ضفاف الدانوب، التي تشهد بداية علاقة جوهرية بـ«سارة» التي تملك معرفة هائلة عن الشرق وسحره الأخّاذ. خلال ساعات الليل المنسابة، بعذوبة، يتبادل الموسيقي وسارة الحديث الجميل الموشَّح بالأحاسيس والموسيقى والمعرفة والذكريات. كانت بوصلة المعرفة وحبّ الاستكشاف تقودهما، حتماً، نحو الشرق. هذه البوصلة التي تفضي إلى الجمال، لا تشير إلى الشمال، بل إلى الشرق وإلى مزيد من الشرق. الآن، أصبحنا نعرف وجهة السارد الحالم بعوالم الشرق وسحره البليغ، بدءاً باستعراضه المستفيض لأدب الرحلة، وهو أدب ازدهر مع المستشرقين خلال القرون الماضية، منذ عصر الأنوار إلى العصر الرومنسي في ألمانيا وفرنسا، وقد أفرز عدداً من المؤلَّفات التي أثَّرت كثيراً في ذهنية الغرب وتمثُّلاته عن الشرق.

ولأن بطل الرواية مهتمّ بالموسيقى فإنه يحملنا إلى عوالم موسيقى موزار، وبيتهوفن، وشوبرت، وليزت، وبرليوز، وبيزيه، وريمسكي، وكورساكوف، ودوبوسي، وبارتوك، شوينبيرغ...، عبر أنحاء أوروبا جميعها، مبرزاً أنه، منذ القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، انتشر، في أوروبا، تثاقُف وتلاقُح وانفتاح على الحضارات الأخرى، بحيث كانت أوروبا إسفنجة ضخمة تمتصّ مياه الأدب والفكر والجمال الشرقي، جاعلةً منه مشتلاً خصباً للتفكير والتغيير. في السياق ذاته يصرِّح بطل الرواية قائلاً: «هؤلاء الرجال العظماء كلُّهم استخدموا ما يأتي من الآخر لتغيير ذواتهم، وتهجينها، لأن العبقرية تحبّ التهجين، وذلك باستخدام العمليات الخارجية لزعزعة دكتاتورية موسيقى الكنيسة». هكذا يفكِّر فرانز ريتر، وهو يناقش، بعمق ودأب، هذه القضايا مع سارة، الجامعية المرتحلة عبر العالم، المفتتنة بالحضارة الماليزية والحضارة الهندية، التيلا تكفّ عن البحث للعثور على أجوبة لأسئلتها الوجودية، هذه المرأة ذات الشعر النحاسي و«الابتسامة المرجانية والصدفية»، التي أحبّت فرانز حبّاً عفيفاً، وخلال رحلتهما عاشا عرساً فكرياً تخلَّلته لقاءات كثيرة بباحثين ودارسين للشرق وثقافته وجغرافيته، كان أغلبهم جواسيس في خدمة وطنهم الاستعماري، كانوا يتخبّطون بين قِيَم الفكر السامية وقيم السياسة المنحطّة.

يكثّف ماتياس إنار روح الشرق ونوره في بطلته «سارة»، فمن هي سارة، يا ترى؟

سارة مستشرقة متخصِّصة، من نوع المستكشفين المنفتحين على رياح الصحراء جميعها، سارة تبحث عن جمال الشرق وروحه منحازة إلى التواصل والحوار والاندماج، تبدو، في بحثها، كأنها تبحث عن الأصول المشتركة للحضارة الإنسانية.

الرحلة تتصاعد، باستمرار، على مدار (378 صفحة)، سارة هي بوصلتها، بينما يكون ريتر مجرَّد مؤشِّر للاتّجاه، غارق في حلم اليقظة، يستعيد الماضي من فيينا «بوابة الشرق»، حيث يعيش، متذكِّراً سارة، المرأة التي أحبّها، المستشرقة التي تغيّر البلد والثقافة كما تبدّل الحياة نفسها: تارةً نجدهما في دمشق، وتارةً أخرى يقضيان ليلة في طهران، وفجأة،ها هما في ساراواك بماليزيا. وإذا اقتفينا أثر هذين المخلوقين الحالمين فسنجد أن ريتر يقدِّم جرداً للصور، دون تناسق كرونولوجي، ناسجاً مخيِّلة تتقاطع وتتلاقى، وكأن ماتياس إينار يضمّن، مرّة أخرى، رسالته الفكرية والإنسانية التي طالما عَبَّرَ عنها في رواياته السابقة: مادام الشرق بلا سلام فلا يمكن أن يعيش العالم في أمان.

الشرق لا يحتاج إلى بوصلة، بينما فكره وروحه يحتاجان إليها، وأكثر من ذلك، يجب الاعتراف أن المرأة هي مَنْ يحمل هذا الفكر وهذه الروح وهذه الثقافة؛ فهي بوصلة الحياة الحقيقية التي ستقود الإنسانية إلى إعادة اكتشاف نفسها وتبديد شكوكها ومخاوفها من الاندماج والانسجام والانصهار في جسد واحد وحضارة واحدة. عن مجلة الدوحة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم