قد يصحّ القول إنّ بعض الروائيين (أكثر من الشعراء، لأسباب شتى يضيق عنها المقام) يزدادون جسارة في تجريب الأشكال والتقنيات، وارتياد مناطق شائكة في الموضوعات، بعد حيازة جائزة نوبل للأدب؛ ربما لأنّ الجائزة تمنحهم حصانة إضافية، واستثنائية أيضاً، أو لأنها تلقي على العاتق مسؤوليات إضافية بدورها، كانوا في حلّ من تحمّلها قبل الفوز السعيد. ولعلّ التركي أورهان باموق (نوبل 2006) هو المثال الأحدث عهداً، والأكثر برهنة على هذه الفرضية؛ خاصة أنّ الأكاديمية السويدية كرّمته وهو في الرابعة والخمسين فقط، في أوج عدّته ومشاريعه المستقبلية. تلك كانت الحال مع روايته «متحف البراءة»، 2008، التي لقيت ترحاباً واسعاً من القراء (في تركيا، والعالم)، ومن النقاد؛ كما نالت جوائز رفيعة (بينها واحدة طريفة، متحفية، يمنحها المتحف الأوروبي!)، وصار اسم باموق يقترن بها، بعد اقتران طويل بعناوين مثل «اسمي أحمر» و»ثلج». وهي الحال، اليوم، مع روايته الجديدة «غرابة تسكن رَوْعي»، التي نُشرت بالتركية السنة الماضية، وصدرت ترجمتها الإنكليزية قبل أيام. الصفة الملحمية لا تبدأ من حجم الرواية (624 صفحة!)، واحتشادها بالشخصيات المتنوعة، وامتدادها على أربعة عقود ونيف من تاريخ تركيا المعاصر، فحسب؛ بل كذلك، وكمـــا هو ديدن باموق في معظم مؤلفاته، غوصها المتعمق في حواري مدينة إسطنبول، وخاصة أحزمة الفقر التي تزنّر الأحياء الحديثة من المدينة (مقابل تركيز باموق، في أعمال أخرى، على الأحياء العتيقة). وهذه رواية تبدو، وحتى إشعار آخر بالطبع، مرشحة لاحتلال موقع العمل الأهمّ بين إصدارات باموق كافة. العنوان، بادىء ذي بدء، مستمدّ من أحد سطور «استهلال»، قصيدة الشاعر الإنكليزي الرومانتيكي وليام وردزورث، يقول: «غرابة تسكن رَوْعي/ يخامرني شعور بأني لست ابن تلك الساعة/ ولا ذلك المكان»؛ ما خلا أنّ المرتاع بالغرابة ليس شاعراً تركياً رومانتيكياً، بل هو الفتى التركي الفقير ميلفت قرداش، الذي ولد في إحدى القرى الفقيرة من أعمال قــــونية، وهاجرت أسرته إلى إسطنبول وهو في الثانية عشرة من عمره. يمتهن ميلفت مهناً عديدة، قبل أن يستقرّ على بيع اللبن والرزّ المطبوخ والحمّص والبوظة (الشراب المخمّر إلشبيه بالجعة)، فيتجوّل في أزقة بؤس تتشابك داخل مدينة تضخمت واتسعت وتعقدت، بين شرق وغرب، وجوع وتخمة. وثمة وفرة هائلة في المصـــائر التي تتقـــاطع أو تتوازى، على نحو ملحـــمي مديني، يذكّر بدبلن جيمس جويس، مثلما يعيد القارىء إلى إسطنبول ذاتها في أعمال الروائي التركي الكبير أحمد حمدي طنبينار، أستاذ باموق باعترافه. وبين رواية العشق الخائبة، وملحمة المدينة الرهيـــبة، تتسع روح الفتى ميلفت لأنماط عديدة من الغرابة، فلا يستغرب إذْ يتأمل فقط، بل ينزلق إلى المتاهات الكثيرة التي تستقبل مصيره، ومصائر الشخوص من حوله، وتطحنها في جوف بلا قرار. وفي العودة إلى أنساق الجسارة التي تحلى بها هذا العمل، هنالك ذلك النسق الذي يضخّ في الفصول جرعة عالية من يقين باموق ـ العنيد، والذي يظلّ إشكالياً تماماً ـ القائل بعدم حاجة الرواية إلى مبدأ بناء الشخصية؛ إذ أنّ هذا الانشغال لم يصبح، في رأيه «ركناً لا غنى عنه» من أركان الرواية الحديثة إلا بسبب تكريسه في النماذج الروائية الأوروبية. الشخص في الرواية يُترك حرّاً ضمن شبكات اجتماعية وسياقات نفسية، والسرد يأخذ القارئ إلى الماضي تارة، وطيلة 200 صفحة مثلاً؛ ثمّ يعود به إلى حاضر لا يجري في الزمن الحاضر بالضرورة، وتُحكى الواقعة فيه من وجهات نظر متداخلة، وأصوات متنافرة أو متناسقة… وإذ يستضيف المشهد الملحمي تفاصيل زاخرة من تاريخ البشر في المدينة، فإنّ الاستضافة الكبرى هي تلك التي تمنحها المدينة، من ذاتها ولذاتها أساساً! وليس أقلّ غرابة، ما دمنا في الغريب والاستغراب، من أن تأتي هذه الرواية، المنفتحة بقوّة على العالم الخارجي؛ من روائي دعا، في محاضرة نوبل تحديداً، إلى عزلة الأديب، حتى كاد أن يجزم باستحالة كتابة أدب حقيقي خارج الانعزال (ويقصد بالضبط: بين أربعة جدران)، بعيداً عن صخب الجموع وضجيج الحياة في الخارج. ولقد كتب: «يحلو لي أن أرى نفسي منتمياً إلى تراث الكتّاب الذين ـ أينما كانوا في العالم، في الشرق أو في الغرب ـ ينقطعون عن المجتمع، ويغلقون على أنفسهم في غرفة، صحبة الكتب. إنّ نقطة الانطلاق للأدب الحقّ هي رجل يغلق على نفسه في غرفة مع كتبه»! فمن أين أتته، إذاً، هـــــذه الطاقة الفذّة على التجوال العميق في بواطن إسطنبول، حـــيث البوظة بنت الملحمة! عن صحيفة القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم