أدركت الروائية السورية سلوى النعيمي، منذ صدور روايتها الأولى"برهان العسل"، أن الرواية ليست مثلما يتخيل غالبية الروائيين العرب، مجرد رواية للتاريخ، بل هي شكل فني ينضوي إلى القول التخيلي بالمعنى الواسع للكلمة، وهذا التخيل لا يعني قطيعة مع الحياة، بل على العكس ينضوي مع الحياة بالمعنى الواسع للكلمة، والروائي يتخير من الحياة ما يصلح للفن، هكذا ينظر للرواية في الغرب عموماً، وفرنسا بالتخصيص. "شبه الجزيرة العربية"الرواية الثانية للنعيمي، والتي صدرت مؤخراً، رواية تؤكد أن النعيمي روائية متمكنة من ناصية الفن الروائي، انطباع متأصل، خاصةً في ظل انزياح موضوعاتها، كلياً عن البدايات، حيث تفتح الباب على المغلق من قهر الناس الذين يشبهوننا، بعيداً عن إرهاق السرد بما لا يحتمل من موضوعات لا تحتاج الرواية للخوض فيها. تنشئ النعيمي في شبه الجزيرة العربية العربية، عالمها الخاص، حيث لا تعالج قضايا بقدر ما تنشئ حيز خصوصي للذات، عالم يفيض عن الواقع واللا واقع، عن المكان الذي تعيش فيه الذات، دمشق، القاهرة، باريس، حيث تطابق الأمكنة مع الذات، مدروس لضرورة التطابق السردي، خارج الحياة تكمن الحياة، هي الحياة في الغربة والهجرة، الراوية المرأة، بما هي قادرة على اكتشاف ذاتها، عزز خصوصية هذا الحيز النفسي. الرواية هي رحلت بحث الراوية عن ذاتها، بكل بساطة الذات المقهورة وعبر استرجاع للذاكرة، تنبش في أسباب قهر ذاتها، ببساطة لا تستدعي الفلسفة والتاريخ والسيوسيولوجيا، التفصيلات الصغيرة التي لا لا تضيع في الذاكرة، تحفظ التاريخ الشخصي بوصفه جز من التاريخ الجمعي من النسيان، الرواية المتماهية مع مروياتها، هي البطل الوحيد، والمرويات هي شكل آخر للذات، وتحمل مشتركات القهر والغربة مع الذات، الموت مشتركات بين مرويات الرواية، تحيل إلى القهر، حيث تنتفي"أنا" الشخصية، ويحيل السرد الشخصيات إلى مجرد عناوين وأرقام تلفون وحياة لم تعش في جيب الذكريات المهترئة، الرواية هنا تتوالد وتتفرع في عالم الموت، الراوي يستيقظ في صباح ثورات الربيع العربي، وتخصيصاً في صباح الثورة السورية، وذلك في سياق إشارة دالة تعزز بلا ضجيج التاريخ، الراوية تعود بتاريخها إلى شبابها في الجامعة، حيث يتسلل الاستبداد إلى ضوء الحربة في البلاد، حيث ترى الراوية أحلامها تغتال أمامها، ولا مجال للنجاة الفردي سوى الغربة والهجرة، حيز زمني ينهض فيه عالم النعيمي الروائي المميز، سؤال ما قبل الغربة، وسؤال ما بعد الغربة، عالم أشبه بالتخيل، ينهض بكليته خارج الزمن المفترض نحو الزمن المنتج لحاضرنا. الرواية تتحول من الماضي إلى الحاضر، حيث تنمو الشخصيات وتتغير في عالم مكتمل يشتمل على كل ما هو عميق وأساسي في السرد الروائي، على أساس بنية محكمة، حيث يأتي عباس إلى باريس بعد أن قضى جزءاً لا يستهان به من عمره في سجون النظام، ليخرج مصاباً بمرض عضال، ويجبر على أن يقضي أيامه الأخيرة في محاولات العلاج، الشخصيات في صعودها وانهيارها، في ثوابتها وتحولاتها، تنشئ نظاماً خاصاً للسرد يدير ذاته بذاته، وقدرة الشخصيات على التعبير من الداخل، لا من الخارج، في استعمال مميز للراوية الغير عالمة. في عمل روائي يتناول الحياة العامة في سوريا، ما قبل الثورة في تماسها مع سوريا الثورة، لا بد من شرح حتى التفصيلات الشاردة في انزواء روائي، يتقن الاشتغال على التفصيلات الصغيرة، حيث لا تستدعى الشخصيات كشبح لضرورة التداعي، أو مجرد علاقة ترابط بين الأحداث، فالذاكرة هنا تشتغل على ترابط ضروري حيناً، علائقي حيناً آخر، لا يعتريه الثرثرة ضمن سرد رشيق لا ينزلق إلى الاقتباسات بداعي اليوميات وضرورة السرد العشوائي، مثلما نقرأ في الكثير من الروايات العربية الصادرة مؤخراً. الذاكرة كموضوعة ذكية للكاتبة النعيمي هي مركز الرواية ومصدر سردها، جعلت من الذاكرة وثيقة وتاريخ واعتراف وحالة ذاتية، حيث كل شخصية تستنطق التاريخ وتضيئه، حيث جعلت الرواية تأملاً متحركاً في روح اللحظة. تشتغل الروائية السورية سلوى النعيمي، في روايتها الأخيرة "شبه الجزيرة العربية"، على تلمس مناطق خاصة بالسرد الروائي، ضمن علائقية بين الثقافة والبنية التخيلية، حيث أسندت الرواية إلى"أنا" الشخصي التجريبي والوجداني، اكتشاف "الأنوات" المركبة والمعقدة، بما يتناسب مع طموحاتها وحاجاتها لقراءة التاريخ السوري روائياً وذاتياً.

  • صحافي وناقد سوريّ

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم