عرف الأدب التشيكي أسماء لامعة اشتهرت على المستوى العالمي، مثل إيفان كليما، وميلان كونديرا، وفرانز كافكا، وغيرهم ممن كان لهم فضل في إحياء هذا الأدب بعد سنوات من الانحدار، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، لكن قبلهم مع بدايات القرن التاسع عشر، ولدت الأمة التشيكية أيقونة أدبها بوزينا نيمكوفا التي وصفها الروائي الشهير ميلان كونديرا بأم النثر التشيكي .

ولدت الكاتبة سنة 1820 في فيينا، لأم من أصل بوهيمي، (بوهيميا منطقة تاريخية تتربع جمهورية التشيك الحالية على جزء كبير منها) . لم تكن حياة نيمكوفا سعيدة، خلال زواجها، كانت تعاني الاستبداد الذكوري بحقها، أنجبت أربعة أطفال، وعانت الفقر بدرجة كبيرة، خاصة بعد أن انخرط زوجها أكثر في العمل السياسي، إلى درجة كلفه الطرد من عمله، لكن حياتها تغيرت في جانب آخر، عندما دخلت في مجتمع براغ الثقافي، هذه المدينة التي تعد متحفاً طبيعياً في أوروبا حتى وقتنا الحاضر، وكان تأثيرها واضحاً على الوطنيين البوهيميين، وتجلى ذلك خلال الجنازة الكبيرة التي أقيمت لها (1862)، فقد كانت نشيطة في الوسط السياسي، وبعد الحرب العالمية الثانية، أقام لها النحات فلاديمير نافراتيل في عام 1965 نصباً تذكارياً في العاصمة التشيكية براغ، لتبقى علامة فارقة في أدبهم بشقيه الكلاسيكي والحديث، وفي وجدانهم .

تعتبر طريقة نيمكوفا في السرد القصصي والروائي من دعائم الأدب التشيكي الحديث، وكتبها في متناول وضمير الشعب التشيكي، خاصة روايتها "الجدة"، التي تحولت إلى مسلسل كرتوني وظهرت في نسخ متعددة من أفلام سينمائية، وتدرس في المدارس التشيكية .

تعتمد أحداث هذه الرواية الشهيرة لدى التشيك على طفولة الكاتبة، حيث عاشت مع جدتها أو "بابيكا" كما يقولون بلغة التشيك، ونظراً للدور المهم الذي لعبته جدتها ماغدلينا نوفوتنا في حياتها، جسّدتها في روايتها، إذ بقيت هذه الشخصية المؤثرة، المعروفة بحكمتها، ورصانتها، وطيبتها، وقصصها، شخصيتها الروائية الأولى، إلى جانب شخصيات نسائية متعدّدة دؤوبة، تعكس قصصهن وتحاربهنّ حالة المجتمع حينذاك ونظرته لهنّ .

تتخلل الرواية التي تدور أحداثها في قرية صغيرة في ريف فيينا، عدداً من الأحداث التراجيدية المرتبطة بعالم النساء، خاصة أن المجتمع كان متحفظاً في تلك الفترة، ولم تكن المرأة تتمتع بالانفتاح والحقوق كما الوقت الحالي . وأكثر القصص تأثيراً ومأساوية هي قصة "فكتوريا"، الفتاة التي تصاب بالجنون بعد دخولها في علاقة مع جندي مجهول الهوية من حامية عسكرية قريبة لهم، قبل أن يتركها راحلاً، تنجب منه طفلاً، لم تستطع أن تحتفظ به، فقامت برميه في مياه النهر الجاري، لكن بعد ذلك تذهب كل مساء في حالة هستيرية جنونية إلى النهر، تغني لطفلها كما على طريقة الأم عندما تهدهد صغيرها .

الجدة عالم من الأسرار والحكمة، تروي الكثير مما عاشته لأحفادها الأربعة، من قصص عن الفيضان الذي دمّر بيوت القرية، وغمر المنطقة المحيطة بالمياه، إلى ذكريات الحرب، التي أفقدتها زوجها . وكانت ترافق على نحو أكثر الحفيدة الأكبر لها "بيرونكا"، حيث تعلمها الثقافة الحياتية، وتقدم لها خلاصة تجاربها، لكن طريقة الكاتبة بارعة في عرض هذه الأحداث، إذ تبتعد عن الصبغة السوداوية، ولا تترك شخوصها متخبطين في ألم الفقدان، والاشتياق، والحزن، بل نراهم يرضخون للأمر الواقع، يقبلون بقدرهم رغم كلّ مأساويته، على مبدأ وقناعة أن الحياة يجب أن تمضي، والمعاناة جزء محتم من الحياة والوجود الإنساني، لا مفر منه، وهذا جزء من فلسفة الجدة الحكيمة كما في الرواية .

يبقى لأدب نيمكوفا تأثيره الواضح في الكتاب المعاصرين، ومنهم التشيكي الشهير فرانز كافكا الذي وصفها قائلاً: "أعرف في التشيكية لغة موسيقية واحدة، هي لغة بوزينا نيمكوفا" .

أنتجت نيمكوفا قصصاً وأساطير قصيرة أخرى، جمعتهما من خلال رحلة طويلة لها لدول أوروبية مجاورة مثل سلوفاكيا، والإمبراطورية النمساوية المجرية، منها: "القرية الجبلية"، و"سياسة البلاد"، و"أساطير وحكايات سلوفاكية"، و"رسائل فرانزينباد"، و"تسعة صلبان"، وقصص أخرى، وهي في عموم كتاباتها تسعى إلى إدماج المرأة في الحياة السياسية وتعزيز الوعي السياسي لديها، وتقف على مناقشة القضايا الاجتماعية التي تشكل حجر عثرة أمام تقدم المرأة وتمكينها .

"الجدة"، هذا العمل الكلاسيكي الصادر في 162 صفحة عام 1855 بالتشيكية، لا يعدّ مهماً في الأدب التشيكي فقط، بل في الأوروبي، والإنساني ككل، وقد ترجمت الرواية إلى الإنجليزية بترجمات مختلفة خلال القرن الماضي والذي قبله، كما ترجمت إلى عدد كبير من لغات العالم الحية، وهي غير متوفرة بالعربية، كما أغلب الأدب التشيكي الثري والعميق، الذي بقي غائباً عن العالم العربي .

ـــــــــــــــــــــــــ

المصدر: صحيفة الخليج

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم