يتحدث الأورغواياني إدواردو غاليانو في روايته "الأغنية التي لنا" عن تسيد الخوف أجواء المدينة التي اجتاحها العسكر، والمحاكمات الميدانية وانتشار الوشاية بشكل مفزع، والخوف المتعاظم بين الناس من بعضهم بعضا، وانعدام الشعور بالمسؤولية لدى كثيرين ممن رضخوا للأمر الواقع، وذلك في ظل غياب العدالة وتطويع القانون لخدمة السلطة الحاكمة.

كما يُشدد الروائي على دور الذاكرة في الاحتفاظ بكل التفاصيل كي تكون محرضة على التغيير المنشود.

يصور غاليانو (1940-2015) الأهوال التي كانت تعيشها الأورغواي في ظل حصار خانق مفروض عليها من السلطة المستبدة، وكيف أن الجوع كان يفتك بأهلها ويدفعهم إلى اقتراف كثير من الممارسات الشائنة، وهو يصف الجوع بأنه خنجر بطيء يمزق الأمعاء.

ويصف الروائي أحوال المدينة ويومياتها، وكيف كانت تعج بالمتسولين والجوعى، بينما تتقدم السلطة في مكبات النفايات. كما يصف المتحكمين برقاب الناس بأقزام يحيطون بمراوحهم بالسلطة، يطوقهم الخيالة الملثمون من فرق الموت، ويرصد واقع أن السلطة قادرة على جميع الجرائم إلا تلك التي تتطلب شجاعة، كما أنها تفتتح سجونا في أول يوم من كل شهر بدلا من تشييد المدينة والعمل على تطويرها وبنائها.

معسكر الخوف

يستهل غاليانو -الذي ظل منفيا عن بلاده عقودا- الفصل الأول من روايته -التي نشرتها دار الحوار في سوريا بترجمة مها عطفة العام 2015- بقصيدة هي أغنية مناجاة للمدينة التي يصفها بالمقنّعة التي تخفي وجهها عن أبنائها، ويسألها إن كانت ستحكي حكايتها، وهل ستكلمهم همسا ذات يوم، وما إن كانت ستقول إنها خُططت في مسار طلقة مدفع، وإنها نزفت، فُرّغت، أُحرقت وغُدرت.

"الروائي يعترف بأسى أن الأشياء أضاعت أسماءها في المدينة، وفُرغت الأرض من الرجال الأحياء، ويسترجع صدى أغنية حزينة وحالة القهر المعمّمة"

ويسأل مدينته أيضا هل ستسلمهم سيوفا كي ينتقموا لها، ومرايا كي يضاعفوها، ونبيذا كي يحتفلوا بها، وأصواتا كي يسموها. كما يسألها إن كان سيستحق أن يشرب عصائرها المرة القوية، وهل سيستطيع أن يغني أغنيته مستلقيا بظهره فوق العشب، وأن يغني بصوت أعمى أغنيتها.

بطل الرواية (ماريانو) يهرب من السجن ويعود إلى مدينته، يلتقي صديقته كارلا ويبوح لها بمعاناته في السجن، ويكشف لها عن الأسى الذي عاشه وخلفه وراءه، وعن أصدقائه الذين لم يفلحوا في الهرب، وظلوا في عتمة السجن. مشهد مدينته التي تبدو كثكنة عسكرية يكون غريبا عليه، يعود بذاكرته إلى ماضيه حين كان طفلا، وكيف كان يسير في شوارع المدينة بأريحية دون أن يخشى الجنود الذين يبدون متأهبين للانقضاض على الناس.

ماريانو الذي يغير من شكله ويحمل اسما مستعارا، يتساءل عن جدوى العودة، وعن المدينة التي لم تعرف كيف تكون معسكرا أخويا بلا حدود، يسأل نفسه إن كانت المدينة هي انطباعهم الرقمي، وما إن كانت إشارة هويتهم حقا، وفي الوقت نفسه قفصهم الفاسد. يتشابك التهديد في مدينته، يترصده، يطارده، ولا يترك له أي مجال للتنفس بحرية.

ويصف غاليانو حالة بطله ماريانو العائد إلى مدينته بعد تجربة سجن واغتراب قاسية، وإرادته في التفكير، واستطاعته التذكر، وشعوره بتراجع الميناء، وتمدد المدينة، وتقدم الأزمنة الماضية، وكيف أن الأشباح تشق طريقها من منفى الذاكرة الحزين.

يعترف الروائي بأسى أن الأشياء أضاعت أسماءها في المدينة، وفُرغت أرضهم من الرجال الأحياء، ويسترجع صدى أغنية حزينة، وحالة القهر المعممة، ويتأسف للحال التي أوصلت إليها الأرض التي منحها أبناؤها كي ينموا ويؤمنوا ويكونوا أحرارا كما في لعبة، ويستفسر هل هي تلك الجثة التي تجرها الخيول، وهل يخترع أبناؤها أنفسهم من جديد؟

استرجاع الذاكرة

يلفت صاحب "مرايا" الانتباه إلى لعبة السلطة الدكتاتورية ومسعاها الخطير في تجريد الناس من هوياتهم وانتماءاتهم وحتى أسمائهم، يجسد ذلك من خلال بطل روايته ماريانو الذي يتحرك باسم مستعار، ويصرح بمرارة لصديقته أنها ستكتشف يوما ما كم من السهل عليهم أن يمحوا الإنسان، ويحرقوا أوراق لعبه، كتبه وأشياءه. ويشير إلى أنهم قد يقتلونه أو يحبسونه أو يجبرونه على الرحيل، ويخبرها أنها سوف تلتفت يوما ما وتكتشف أنه لم يبق منه أي أثر، كأن شيئا لم يكن.

"غاليانو يشير إلى أن محاكم التفتيش التي كانت تهدف إلى تصفية المعارضين للسلطة كانت توصف بالمقدسة، في حين أنها كانت مدنسة واقعيا، وأنها كانت كبرج بابل، لأن الذين يدخلونها لن يجدوا طريقة أبدا للخروج منها"

ويلقي عالم السجن الرهيب بظلاله على أجواء الرواية، فماريانو الهارب من السجن يجد نفسه منغمسا غارقا في سجنه حتى بعد هروبه منه، يحمل السجن معه في ذاكرته وخياله، يشعر بالحاجة للكلام، ليحكي عن الأهمية الكونية للبطانية والتفاحة هناك، وكيف أن فضاء وجهها كان يتسع لكل حريته، يحكي لها أن الوجوه كانت تتحرر وتذهب. وقد يصل به الأمر في ليلة ما أن يطلب من الذاكرة وجها لكنها لا تفرز شيئا. وذاك هو الموت في السجن، أي عدم القدرة على التذكر.

يشير غاليانو إلى أن محاكم التفتيش التي كانت تهدف إلى تصفية المعارضين للسلطة كانت توصف بالمقدسة، في حين أنها كانت مدنسة واقعيا، وأنها كانت كبرج بابل، لأن الذين يدخلونها لن يجدوا طريقة أبدا للخروج منها. ويصف سعيها لإصدار أحكام جائرة بحق المعارضين الذين وجدوا أنفسهم مرميين في السجون، ومجردين من حقوقهم، ومتهمين في وطنيتهم، ومشكوك في أمرهم، مما جعل فضاء المدينة مسمما بالشك والريبة بين أبنائها، وملوثا بالضغائن التي يزرعها الدكتاتور ويشتغل على تعميمها ونشرها.

ويتنقل غاليانو بين عدة عناوين يختارها لفصوله، "المدينة، العودة، الآلة، محاكم التفتيش المقدسة، تسكعات غانابان..". يكرر كل عنوان بضع مرات، كأنما يسعى إلى التأكيد على أهمية ما يطرحه من خلاله، والتشديد على المكان، وعاداته، والممارسات التي اقترفت بحق أبنائه، ناهيك عن استنطاق الآلة وإشراكها في عملية استرجاع الذكريات ومحاكمة الزمن الماضي.

ينسب غاليانو الأغنية المفترضة إلى ضمير الأنا، معبرا به عن ضمير الملكية الجماعية، يخصها بهم، يرمز إلى استعادة الملكية المفقودة، وذلك من خلال التأكيد على ملكية الأغنية التي تعكس بدورها ملكية التاريخ والتراث والماضي، تمهيدا لاستعادة ملكية المدينة المُستلبة، تلك التي يتحكم بها الطاغية، ويفرغها من أهلها. وبهذا المعنى تكون الأغنية التي لهم رمزا للوطن المستعاد، وتأكيدا على الهوية والانتماء، وتكون ميدان صراع مفتوح بين الطاغية وأبناء البلاد المناضلين في سبيل حريتهم وحرية بلدهم.

ــــــــــــــــــــــــــــ

عن الجزيرة نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم