تعيد التركيّة أليف شفق في روايتها الجديدة "الفتى المتيم والعاشق" رسم معالم مدينة إسطنبول، وملامح أهلها، في القرن السادس عشر في عهد بضعة سلاطين عثمانيّين، تتغلغل إلى قصورهم وأفنيتها ودهاليزها لتقوم بتظهير الخفايا وتفاصيل ما كان يدور فيها من أحداث، وما يحاك من دسائس ومؤامرات، وما يخطط من استراتيجيات، وما يخاض من حروب، صغيرة كانت أو كبيرة.

تستعين شفق بالوقائع والأحداث التاريخيّة، تضعها نقاط علّام لها لتستدلّ بها في عملها، من تلك الوقائع التي تستند إليها أحداث مثل تولّي بعض السلاطين مقاليد الحكم "سليمان، سليم، مراد"، بالإضافة إلى تواريخ حروب خاضوها، في الشرق أو الغرب، وكان لها صداها في التاريخ العالميّ برمّته. وبالتزامن مع أولئك السلاطين تختار شخصيّات هامّة كانت مرافقة لها، وكانت ذا تأثير كبير في مجريات الأحداث، سواء كان الصدر الأعظم لتلك المرحلة، أو قادة الجيش، أو غيرهم من المشرفين على القصر السلطانيّ، وقصر حريمه، وحديقته الملكيّة وحيواناته الضارية والأليفة على حدّ سواء.

تركّز شفق على رئيس المعماريين الملكيّ المعمار سنان الذي شيّد مئات القصور والمساجد والمواقع الشهيرة، وكان ذا شأن كبير في تطوير الفنّ المعمار العثمانيّ وتحديثه، وكانت تصاميمه مضرب مثل في أرجاء العالم قاطبة، استرعى اهتمام المعماريين في كلّ مكان وذاع صيته، وكان البناء غاية نبيلة بحدّ ذاتها لديه، ناهيك عن شغفه بالعلوم ورؤاه الثاقبة في الحرص على إعمال العقل في مواجهة الخرافات المستوطنة في نفوس الناس.

بالإضافة إلى الشخصيات التاريخيّة التي تتّكئ عليها شفق في رسمها لخرائط تحرّكات شخصيّاتها التي تبلغ العشرات، فإنّها تعتمد إلى التخييل التاريخيّ الذي تسدّ به الفراغ الموجود في التوثيق والتأريخ الخاصين بإسطنبول حينها، وبالأحداث الكبرى التي جرت في تلك المرحلة، ووقعت على هامشها مفارقات وقصص حب وعشق وخيانة وغدر وخيبة وألم وأمل ونكسة وانهيار وتحرّر وجنون.

توزّع شفق أدوار البطولة على عدد من الشخصيات، تمنحها حيزاً من الاهتمام، تضعها في دائرة الضوء، تبقيها مركز الأحداث بشكل موظّف، وتبرز دورها في سير الأحداث وحبكخا وتلفيقها بعض الأحيان، ويكون ذلك من باب التأكيد على أنّ هناك شخصيات قد تبدو للتابع أو القارئ صغيرة، لكنّها تؤدّي أدواراً كبيرة في التاريخ، وتكون منسيّة لا أحد يأتي على ذكرها، أو ليس هناك من يتنبّه إليها.

جَهان هو تلميد المعلّم سنان، هو الفتى الهندي القادم من الهند برفقه فيله الأبيض الصغير الذي يرسله ملك بلاده إلى السلطان العثمانيّ. يتحدّى جَهان إرادة زوج أمّه، ويتسلّل إلى السفينة التي تقلّ الفيل الصغير شوتا؛ الذي كان يشعر بعلاقة غريبة معه، ولاسيّما أنّه كان شاهداً على ولادته، وساعده في شرب حليب أمه، وكان يشعر بأنّ بينهما أخوّة ما، ويظلّ مستعدّاً للتضحية في سبيله، قرن رحلته الحياتية معه، وأوقف نفسه لإسعاده كأخ وفيّ وصديق وحيد.

تقتفي شفق رحلة الفتى جَهان من بلاده في الهند إلى إسطنبول، وخوضه المغامرات الغريبة التي كان يجد نفسه مضطرّاً لخوضها من دون أن يكون له قرار أو اختيار فيها، يجد نفسه مدفوعاً إليها، وصولاً إلى لحظة العودة بعد عقود إلى مسقط رأسه، بحيث أنّ اللحظة الحاسمة هي التي تفرض نفسها عليه. يذعن لطلبات القبطان الذي أقلّه مع فيله، وتستّر على أنّه ليس مروّض الفيل، وطالبه بسرقة بعض المجوهرات والأموال له من القصر وإعطائها إيّاه، وإلّا سيخبر عنه ويفضح أمره، ما كان يبقيه قيد ابتزاز القبطان لسنوات.

مروّض الفيل وسائسه في قصر السلطان يتحوّل إلى عاشق لأخت السلطان نفسها، مهرماه التي تكون بدورها مضرب مثل في التميّز والجمال، تكون رهيفة الأحاسيس، تتمتّع بشخصية واعية متّزنة تنصت إلى حكاياته ومغامراته مع فيله لحين وصوله إلى القصر. يحوز جَهان على اهتمام الأميرة مهرماه، فتكرّر زياراتها له، وتستمتع بحكاياته، ويروق لها الفيل جدّاً، فتواظب على زيارتهما، بحجّة الفيل، لكنّها لا تصرّح بأيّ عاطفة أو رغبة تجاه جَهان الذي يكتوي بنيران الحبّ والشوق، ولا يجرؤ على الإفصاح عمّا يعترك في قلبه، ولا ما يفكّر فيه إزاءها.

يعاني جَهان عذاباً شديداً جرّاء حبّه المكتوم للأميرة، ينتشله المعمار سنان من أغوار قهره وحزنه وانكساره، بعد أن يرى فيه إصراراً على التعلّم، وسعياً للابتكار، وإرادة وعناداً وتشبّثاً بتطوير الذات، اختاره ليكون تلميذه الرابع، ليساعده في أعمال البناء التي يشرف عليها ويصمّمها، بالإضافة إلى بقائه سائساً لفيل السلطان، وكان يجمع أحياناً بين وظيفتيه، بأن يسخّر الفيل في خدمة البناء، بحيث يمارس دوره كبنّاء ومروّض في الوقت نفسه، ويساهم في تسريع العمل والإنجازه، كما ساهم في تحقيق الانتصارات في بعض المعارك إلى جانب السلطان، ودور فيله شوتا في سحق أعداء السلطان، وبلائه الحسن على أرض المعركة، وتفوّقه على مروّضه وصديقه جهان.

هناك الفلكيّ الدمشقيّ تقي الدين الذي تمكّن من تشييد مرصد ملكيّ في إسطنبول وحظي بموافقة السلطان على ذلك، صمّمه المعلم سنان وتلاميذه أبدع تصميم، لكنّه وقع ضحية الغدر والجهل والتخلّف والخرافة، فبعد تنبّئه ببعض الحوادث المبهجة، وقعت حوادث مؤسفة نقيضة لها، ما دفع بعضهم إلى التطاول عليه واتّهامه بالكفر وتسبّبه بنقمة الله وغضبه، وأنّ ما جرى كان عقاباً إلهياً على تطاول الفلكيّ على السماء بمراقبته لها وتقوّله عليها.

تظهر شفق أدوار الخرافات في تسيير شؤون الحياة في عاصمة السلطنة العثمانيّة، وإفادة بعض رجال الدين ورجالات الدولة من السلطة الممنوحة لهم، بحيث يتصرّفون بمعزل عن رغبات الناس، أو يوظّفون تلك السلطة في توسيع النفوذ وإدامة السيطرة، في الوقت الذي يظلّ الدهر دولاً وتداولاً بين المسؤولين، ابتداء من السلاطين الذين يفقدون الجاه والثروة والحكم، وأبنائهم الذين يقتلون على أيدي إخوتهم وأقاربهم، مروراً بقبائل إسطنبول وسكّأنها المختلطين من مختلف الأديان والقوميات والأعراق، منهم مثلاً يهود ومسلمون ومسيحيون، أتراك وعرب ويونان وأكراد وفرس وأجانب من مختلف الأماكن، وكذلك منهم الغجر المتنقّلون الذين تكون لهم قوانينهم وحياتهم الخاصّة بهم، ويكون عالمهم مزيجاً من الأساطير والغرائب، وصولاً إلى المشرّدين وقطّأع الطرق والتائهين والمرضى والمنبوذين.

تحفل الرواية الضخمة (608 صفحة) بعشرات القصص التي تدور في فلك الحب والغدر والخيانة، وتجري على هامش الحروب، في قصور السلاطين، وعلى قوارع طرق إسطنبول وروما مناطق في الهند وأخرى في أماكن كثيرة متناثرة، كبلغراد، أدرنة.. وفي أعماق البحار والمحيطات، ناهيك عمّا يعتمل في دواخل الشخصيات من مشاعر إنسانيّة كثيرة، تصل أحياناً إلى أن يكون صاحبها مسكوناً بالتناقضات ورهيناً لها. قصص التلاميذ ومعلمهم، قصص كلّ واحد وارتحالاته وأفكاره ومخططاته ومؤامراته، وهي قصص تتكامل لترسم صورة إسطنبول والعالم حينذاك.

تسرد شفق أحوال السلاطين ومآلاتهم، يوميات الرعايا ومصائرهم، صراعات خارجيّة بين قوى عظمى حينذاك، وأخرى داخليّة تتبادل التأثير والتأثّر، حكايات القصور والمختبرات والمدارس والمساجد؛ قصص أروقة الحكم ودواخل الحكّام، آمال الخدم ومؤامراتهم وتكتّلاهم وتبعيّتهم وامتيازاتهم وسيرهم الموازية لسير السلاطين، بحيث أنّ تقلّبات الدهر كانت تتربّص بالجميع، قادمة ومحكومين سواء بسواء. وغالباً ما تكون النهايات تراجيديّة باعثة على التأمّل والتدبّر والاعتبار.

تؤرّخ شفق لتاريخ موازٍ للتاريخ الرسميّ الذي دوّن سير السلاطين وإنجازاتهم في البناء والحروب، والخيبات والمؤامرات التي تعرّضوا لها، والتصفيات التي كانت تجري داخل الأسرة الحاكمة، وأدوار النساء في إثارة الضغائن والأحقاد والدفع إلى القتل والاغتيال، بالتزامن مع رصدها الأوبئة التي كانت تفتك بالناس حينذاك كالطاعون وغيره، والحرائق التي كانت تفتك بالمدينة والمعمار، كذلك بالتركيز على الضياع الذي كان يعيشه بعض من المهمّشين، من ذوي الأرواح المتمرّدة الثوريّة الهاربة من تاريخها الساعية إلى تقرير مصيرها.

عن مجلة دبي الثقافية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم