تهيمن ظلال الحرب الأهليّة وتداعياتها على الروائيّ أمين معلوف في روايته «التائهون»، «ترجمة نهلة بيضون، الفارابي، بيروت 2013م»، التي يقدّم فيها مأساة جيل برمّته، جيل بدّدته الحرب وشتّتت شمله، وذلك عبر شلّة من أصدقاء الجامعة، ألقت الظروف بكلّ واحد منهم في اتّجاه.

يستلهم معلوف؛ الذي اختير لعضويّة الأكاديميّة الفرنسية، حكاياته من مخزون الذاكرة المتخمة بالحروب والصراعات والنزاعات والأحداث والويلات، بالموازاة مع الأحلام والأوهام والوقائع والحقائق والتصوّرات والرؤى. حيث رعبُ الحرب، تداعياتها التي لا تقلّ إيذاء عن موبقاتها وممارساتها، النتائج اللاحقة عليها والتي تحفر عميقاً في أرواح المكتوين بها اغتراباً وتشريداً، التيه الذي يغرق الشخصيّات، ويلقي بظلاله على المستقبل، الحنين إلى الماضي الجميل، وزمن البراءة والحلم، الشوق إلى الصدق، المكابرة على الجراح والتشويهات، كلّ ذلك وغيره من دوافع البحث عن كوّة أمل تحرّض الأصدقاء للسعي إلى لمّ الشمل في الوطن والعودة بعد تفتّت وتشتّت وانقسام واغتراب.

يختار معلوف نهاية القرن العشرين ومستهلّ القرن الواحد والعشرين فضاءً زمانيّاً مرتكزاً لروايته، مع سياحته الزمنيّة واسترجاعاته المتوازية لاستشرافه، في حين يكون لبنان (غير المُسمّى في الرواية) فضاءه المكانيّ، المنفتح على مختلف الجهات، نقطة الانطلاق والعودة معاً. يقسّم روايته إلى ستّة عشر فصلاً، كلّ فصل يتحدّث عن وقائع يوم، يبدأ باليوم الأوّل وينتهي باليوم السادس عشر. تحفل الأيّام الستّة عشرة بأحداث أزمنة مديدة وعهود غابرة ووقائع معاصرة.

آدم بطل الرواية، والراوي الذي يكتب يوميّاته داخل الرواية، لتتحوّل الرواية إلى صدى لصوته المسموع من جهة، والمكتوب من جهة أخرى. ويحرص الكاتب على التمييز بين الصوتين عبر تغيير نوع الخطّ وشكله، ولتمييز بوحه وكتابته من سرد الراوي العليم المتماهي معه، يغادر بلده في بداية الحرب الأهليّة في منتصف السبعينات من القرن العشرين، وهو نظيف الكفّ كما يصف نفسه، لم ينخرط في أيّ فصيل متحارب، ولم يحمل السلاح، ولم يكن الأوّل من شلّته الذي اختار الهجرة من البلد، بل سبقه صديق آخر.

يعمل آدم في باريس أستاذاً جامعيّاً، يكتب الأبحاث ويغوص في التاريخ، يتلقّى اتّصالاً مفاجئاً من صديقه مراد وزوجته تانيا، يطلب فيها مراد منه أن يراه لأنّ يُحتضَر، وفوراً يقرّر آدم العودة إلى الوطن بعد ربع قرن من هجرته، ويكون في مواجهة مع الذات والذاكرة والتاريخ والواقع والمستقبل معاً. يسافر على متن أوّل طائرة متّجهة إلى بلده، وحين يصل تكون صدمته باعتباره غريباً عن بلده، أو معاملته على أساس مغترب، يحاول أن يستنكر في قرارته، لكنّ الواقع يفرض عليه المهادنة والمسايرة، لأنّه يخمّن أنّ هناك ما قد تغيّر.

لام نفسه لأنّه لم يزر صديقه فوراً، ثمّ عاد وراجع قراره، فوجد أنّه كان على صواب، وربّما لم يرد لهما القدر اللقاء، وواسى نفسه باعتقاده، وارتاح من همّ المواجهة مع مراد، ولاسيّما أنّ مراداً كان قد انخرط في لعبة السياسة القذرة، وأصبح تابعاً لأحد ذوي النفوذ من أمراء الحرب. يقدّم آدم تعازيه إلى تانيا، لكنّه لا يشارك في الدفن والتأبين، يتهرّب من إلقاء أيّة كلمة، يُؤثر الابتعاد إلى الجبل، يتحدّث مع صديقته سميراميس صاحبة الفندق. وهناك يقضي أوقاتاً مميّزة.

لمّ الشمل، تيْهٌ مركّب:

يسعى آدم إلى إعادة ربط الخيوط، وتبديد الاختلافات، يؤمن بالتغيّر سنّة حياتيّة، يسعى إلى لمّ شمل الأصدقاء بعد فراق ربع قرن، تخطر له الفكرة لإحياء ذكرى مراد الذي كان عضواً فعّالاً في الشلّة، والذي كان موضع خلاف واختلاف دائمين في الشلّة، ويتحوّل إلى سبب مقنع لاجتماع الأصدقاء. لاقت فكرته ترحيباً من صديقته، وبدأ على الفور إجراء اتّصالاته، وإرسال اقتراحه إلى الأصدقاء.

الشلّة التي كانت مؤلّفة من مراد ورامز ورمزي وألبير ونعيم وبلال وسميراميس وآدم، كانت قد نقصت بموت مراد ومقتل بلال. كلّ واحد من أفرادها اختطّ لنفسه خطّاً في الحياة، فرّقتهم سبل الحياة وجمعهم موت الصديق. أي أنّ الفجيعة فرّقتهم، والفجيعة لمّت شملهم أيضاً. بين فجيعتين تدور سيرة الأصدقاء وسيرة الأوطان. كلّ منهم في قارة، أو دولة، تباعد بينهم المسافات، وتزداد الفجوات، تجمعهم الذاكرة والصداقة والرغبة في التصالح مع الذات بعد اغتراب مديد ومعاناة مريرة.

أثناء إرسال الرسائل الإلكترونية، كان آدم يتغلغل في تفاصيل حياة كلّ شخص، يقدّمه في سياق تكامل دائرة الشخصيّات، ويكون تفصيله مكمّلاً للمشهد العامّ الذي يغلّف بلده، إذ أنّ كلّ شخصيّة من شخصيّاته تنتمي إلى دين مختلف وطائفة مختلفة، يجمع بينها ماضٍ حميم، وصداقة لا تستطيع الصراعات المستعرة القضاء عليها أو تبديدها.

تحضر قصص أليمة مفجعة من واقع الحرب الطاحنة التي استنزفت البلد وفرّقت أبناءه. مراد يتحوّل إلى سياسيّ نافذ فاسد، تشاركه تانيا طموحاته وتبرّر له تصرّفاته، لكنّ أصدقاءه يعلمون أنّه في قرارته بريء ونظيف. سميراميس تعتزل في الجبل، تكتفي بإدارتها لفندقها، وهي المثقلة بذكرى صديقها بلال الذي كان من أوائل مَن قضى في الأحداث، ولم تستطع التحرّر من ذكراه. ألبير بدوره سار في طريق الهجرة، استقرّ في الولايات المتّحدة، يعمل في مركز تابع للبنتاغون، وذلك بعد أن مرّ بتجارب قاهرة في بلده، وهو الذي قتل والده في أفريقيا، وتخلّت عنه أمّه، وحاول الانتحار لكنّ المصادفة منعته، وتمّ خطفه كرهينة من قبل بعضهم، ولم تتمّ تصفيته، وساعده مراد على الخروج وأرسله إلى باريس ليستقبله آدم، ومن هناك توجّه إلى أميركا ليباشر مرحلة جديدة مختلفة من حياته. أمّا نعيم فقد استقرّ مع أهله في البرازيل، بعد أن هاجر إليها، وتزوّج فيها وأنشأ مشاريعه في الصحافة. وكان الرمزان، كما كانت الشلّة تسمّيهما، رامز ورمزي، وفيّين لبعضهما بعضاً، إذ التزما بتأسيس شركة هندسيّة جمعا من خلالها ثروة طائلة، ودامت شراكتهما طويلاً، لحين اعتزال رمزي الحياة واختياره عيشة الدير بتقشّفها وتزهّدها، وكان ذلك ردّه الحاسم على ما مرّ به من أحداث متفرّقة قاهرة تراكبت لتدفعه إلى اتّخاذ قراره المؤسف لصديقه.

وهكذا كانت دروب الحياة قد أتاهت الأصدقاء وأبعدتهم عن بعضم بعضاً، ولم تفلح الغربة في القضاء على ذاك الحلم الجميل في ماضيهم، حيث كانوا مفعمين بالأمل ورغبات التغيير والثورة، لكنّ الواقع أضفى على مثاليّاتهم المفرطة قيوداً كثيرة، أقعدتهم وأجبرتهم على الرضوخ لوحشيّته.

يكون آدم همزة الوصل بين الأصدقاء، يتواصل مع الجميع، يسعى لتحديد موعد لمّ الشمل المنشود، وأثناء تواصله مع الأصدقاء يكتشف الكثير من الحقائق والتغيّرات، يتمّ تحديد فندق سميراميس مكاناً للمّ الشمل، يقصده الأصدقاء من أمكنتهم الجديدة، لكنّ الفاجعة الكبرى تقع حين يقصد آدم الدير في اليوم المحدّد للمّ الشمل ليصطحب صديقه، وفي طريق العودة تنقلب بهم السيّارة، يقضي فيها صديقه والسائق، ويظلّ آدم معلّقاً بين الحياة والموت. تصفه صديقته دولوريس التي تعتني به ولا تفارقه، بأنّه محكوم مع وقف التنفيذ، وتضيف: «مثل بلده، ومثل الكوكب. مع وقف التنفيذ، مثلنا جميعاً». ص 555.

رموز ومحاججات:

يشير الراوي إلى دلالة الأسماء ورمزيّتها والمصير المرتبط بها، إذ يقول إنّ المرء سرعان ما يعتاد على الاسم الذي يحمله فلا يعود يفكّر على الإطلاق بمعناه ولا بالسبب الذي دفعه لحمله، وذلك في معرض تحليله لما وراء الأسماء التي تطبع الشخصيّات والمصائر. وكأنّ آدم باسمه يختصر بدء الخليقة وينذر بنهايتها الصادمة، مروراً بالأحداث المأسويّة المتعاقبة.

تتحوّل النقاشات والمراسلات بين الأصدقاء أحياناً إلى مرافعات ومحاكمات تاريخيّة، وفي بعض الأحيان إلى مماحكات، يحاجج كلّ طرف الآخر برأيه وتصوّراته ومواقفه، تختلف المواقع وتفترق المواقف، لكنّ الودّ يدوم والتواصل يستمرّ بحبّ وسعادة.

في خضمّ الاحتراب، وبحر التصارع وتصفية الحسابات، إبّان تشرذم المجتمع وتفّككه، تختار الحرب فرائسها، تنهش أرواحهم في عصر سوء النيّة وتعنّت المواقف، حيث يجد المرء نفسه بين كراهية الآخر وكراهية نفسه، ونهب هزائم لا تنتهي، يتحايل على نفسه بتوصيفها على أنّها انتصارات. أحلام الأصدقاء التائهين النبيلة تتلوّث بحكم قذارة الواقع وجشع الساسة والمتحاربين، تكويهم أوهامهم بالانتماء إلى مهاجرهم وتبدّد هويّاتهم بين وطنهم الأصليّ الذي لفظهم واحتفظوا به في قلوبهم وذاكرتهم، وبلد آخر احتضنهم وشذّب تطرّفهم وحقّق لهم بعضاً من أحلامهم..

يحرص الكاتب على تسريب الكثير من رؤاه الواردة في كتبه الفكرية «الهويّات القاتلة»، «اختلال العالم» إلى روايته بطريقة غير مباشرة، على ألسنة شخصيّاته أثناء تقديمها نفسها في سياق الرواية، ليتجلّى خطاب الرواية المعلن المضمَر، بأنّنا نختلف لنأتلف، وأنّه بالحبّ يمكن تطويع المستحيل.

ــــــــــــــــــــــــــ

عن دبي الثقافية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم