هيثم حسين 

العلاقة بين الرواية والتاريخ علاقة متداخلة ومعقدة، بين التنافر والتكامل، ولكن لا أحد ينكر تأثير كل منهما في الآخر وفي قراءته وفهمه وإدراكه. فمن خلال وقائع تاريخية تتخذ الرواية قناعها الحيوي ومن خلال الرواية يمكن كشف المناطق المخفية وغير المعلنة من التاريخ، جدلية أجاد بناءها الروائي السوري عبدالله مكسور في روايته الأخيرة المعنونة بـ»2003».

يتحرّك السوري عبدالله مكسور في روايته “2003” في فضاء روائي أراد له أن ينفتح على أمداء شاسعة، وجغرافيات متباعدة يربط بينها تاريخ مشترك، يتبدّى للوهلة الأولى غرائبيا، لكنه ينكشف عن تفاصيل وحيثيات وأحداث متعالقة، وكأنها تقتفي آثار الشخصيات في أزمنة وأمكنة مختلفة لتضعها في دائرة الضوء، وترفع بعض الغبن التاريخي عنها.

يختار مكسور لروايته عنوان “2003”، وتراه باختيار الرقم كعنوان، من دون أي إضافة أو تفسير، يحيل إلى عام بعينه يشكّل لحظة مفصلية في تاريخ المنطقة برمّتها؛ تاريخ احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وحلفائها – وقد يقول البعض تحرير، أو سقوط أو انهيار – لأنّنا أمام سرديات منطلقة من مواقف سياسية ومصالحية، وكلّ يختار ما يناسب روايته للتاريخ ويسبغ عليها التوصيفات والتسميات التي تتقاطع مع مصالحه ومواقفه.

شخصيات أسيرة

التاريخ المحدد يكون محطة زمنية بين عدّة محطّات سابقة ولاحقة، وكلّ منها تحظى بأهمية كبيرة في تاريخ بطل الرواية وأسرته، لأنّه يكون محكوما بما تفرضه عليه وقائع تحدّد له مساره وترسم له مصيره إلى حدّ كبير.


الرواية تحكي تداعيات السياسة على البشر في الماضي والحاضر وكيف أنها تبقي الراهن صورة مكررة بائسة عن الماضي

يركّز صاحب “أيام في بابا عمرو” على التاريخ الذي يكون محرّكاً للأحداث وخلفية لها في الوقت نفسه، يحوّل التاريخ إلى بطل روائي غير واضح الملامح، لكنّه يتحكّم بملامح الشخصيات ويقودها من حدث إلى آخر، ليشير بذلك إلى أنّ أثر التاريخ امتداديّ يسير في خطوط قد تبدو متعرجة لكنها تعود وتؤثر بشكل مباشر كلّ مرة بحلل معاصرة.

تنهض الرواية، الصادرة عن دار نوفل بيروت 2021، على تداعيات السياسة على البشر في الماضي والحاضر، وكيف أنها تبقي الراهن صورة مكررة بائسة عن ماضٍ ظُنّ أنه مضى وانتهى، لكنه يعيد نفسه بطريقة قاسية في كلّ دورة من دوراته.

طبيب الأسنان العامل في بغداد في عام السقوط يكون الشاهد الشهيد على مآسي العراق، ويكون أحد الضحايا الذين تطحنهم رحى المفارقات التي يجد نفسها منخرطا فيها من دون أن يكون له رأي أو قرار فيها، وتراه بذلك يمثّل محنة أجيال ضائعة في جغرافيات متقاتلة متلاغية تبحث لنفسها عن موطئ قدم في معمعة الخراب المتجدّد.

ينتقل الطبيب من سجن إلى آخر، وفي أكثر من بلد عربيّ، وكأنّه منذور للسجون والتيه، وإن كان يخطط لحياته بعيدا عن ذلك المستنقع المفجع، لكنه يقع رهينة له، ويظلّ يدفع ضريبة انتماءاته التاريخية، وتلك التي يتمّ تلفيقها له والانتقام على أساسها منه وممّا يمثّله من ذاكرة حيّة.

يقع بين أيدي الاستخبارات التي تقوم بالقضاء عليه بطريقة وحشية، وتعذيبه بأسلوب إجراميّ، بحيث تستلب منه إنسانيته، وتلغي وجوده نفسه، بعد أن تلفق له الاتهامات، وتلقيه بين الجهاديين، وتفرض عليه شخصية غريبة عنه، بشكل بعيد عن توجهاته وتكوينه.

يوظّف مكسور في روايته شخصية الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين، يستنطقه، يقوده إلى عيادة الطبيب الشابّ الذي يعالج له أسنانه، وكأنّ النخر جزء من الخراب الذي تسبّب به لنفسه وبلاده، ويجعله يشهد لحظة إسقاط تمثاله هناك وسط بغداد من نافذة عيادة الطبيب، من دون أن يكون قادرا على الإقدام على أي فعل، بل يكون هاربا متخفيا باحثا عن ملاذ له.

ضحايا التاريخ

الكاتب يمزج بين عدة خيوط ومحاور وتواريخ وجغرافيات، ينتقل من العهد العثماني إلى الواقع المعاصر

يمزج الكاتب بين عدة خيوط ومحاور وتواريخ وجغرافيات، ينتقل من العهد العثماني إلى الواقع المعاصر، وذلك من خلال شخصية الجد الذي كان ضابطا عثمانيا، وجد نفسه في الأيام الأخيرة لسقوط الإمبراطورية العثمانية في القدس، ثمّ ينقل إلى ألمانيا بعد إصابته، وبينما يكون هناك تنهار الإمبراطورية العثمانية، فينهار معها انتماؤه الرسميّ، ويظلّ عالقا غريبا يبحث عن انتماء، أو يغدو لامنتميا بمعنى الكلمة، ويتحول إلى وسيط لبيع وشراء الأسلحة.

الجد الذي يعاني الويلات يتجسّد كبؤرة حكائية تفتح صندوق التاريخ، تفضحه بمعنى من المعاني، ينقل عدوى التشرّد وأزمة الهوية إلى الحفيد الذي يبقى أسير أزماته كذلك، ولا يستدل إلى درب للنجاة، ذلك أن كلّ محطة تدفع به إلى أخرى أشد قسوة، وتوصله إلى حائط مسدود، لا فكاك منه أو فرار.

يقع الجد بأيدي الأميركيين بعد الحرب العالمية الأولى، في حين يقع الحفيد بأيدي الأميركيين بعد عقود بأيدي الأميركيين بعد احتلال العراق وسقوط نظام صدام، بحيث يكون المصير متشابهاً، لكن أشدّ قسوة في حالة الحفيد، وذلك في دلالة رمزية إلى اشتداد سعير التصفية والقهر والإجرام مع التقدّم بالزمن.

يحاول الكاتب استخلاص بعض العبر من دروس التاريخ التي يقف عليها في روايته، يدفع قارئه للبحث عن سيناريوهات لما كان يمكن أن يكون لو لم تلعب مصادفات معينة أدوارا غرائبية في تحريك الشخصيات ونقلها من مكان لآخر.

ينقل مكسور أبطاله بين اللعنات، لعنات التاريخ والجغرافيا، لعنات السياسة ودهاليزها، لعنات الحروب وكوارثها، ويغلق الدائرة على مأساة متجددة، حيث السجن القاهر والقاتل، حيث استلاب الشخصية والهوية، وحيث الضياع والتدمير.

ينطلق الكاتب بشخصياته ممّا قد يبدو حنينا ماضويا إلى تفاصيل ومفارقات، وذلك في مسعاه لبلورة هوية لم تستدلّ إلى ملامحها بيسر، بحيث ينتقل من حنين إمبراطوري إلى حنين دكتاتوري، وإن كان عبر تقديم الدكتاتور بلبوس الضحية، وكأنّ قلب الأدوار قد يعيد شيئا مما قُبر إلى غير رجعة، أو يحافظ عليه حيّا في الذاكر بغية استعادته والإشادة به في معرض ذمّ الواقع المخيب لآماله.

يستعين مكسور كذلك بخرائط بين بعض الفصول تكشف عن تنقلات الشخصيات، أو يستعمل ملصقات تبرز صورا عما كان، أو خطابات مفترضة منسوبة لشخصيات تاريخية وذلك من باب الإيحاء بواقعية الرواية وحقيقتها، ومثيرا التصوّر بأنّه إنما يدوّن وثائق تاريخية وحكايات لشخصيات حقيقية تقاطعت في ما بينها حيواتها وتداخلت بشكل كبير بحيث انتقلت عدوى الضياع من إحداها إلى أخرى، وسط عالم كان ولا يزال يعاني من انهياراته وحروبه التي لا تنتهي.

يعكس الكاتب وعيا بتأثيرات التاريخ على المهمّشين الذين يظنّون أنّهم بمنأى عنها، وأنّ الأحداث والمنعطفات الكبرى لا تغيّر مصائرهم كأفراد، في الوقت الذي يقعون ضحاياها ولا يجدون سبيلا للانعتاق أو الخلاص منها.

عن صحيفة العرب 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم