صبحي شحاته 
إن انحطاط أدبنا المصري الآن وهنا، ليس مرده فحسب إلي ثقافتنا المحافظة الرجعية السلفية، التي  تمنع حرية الرأي والتعبير، وتفرض علي الكتاب عدم نقد وهدم وتجاوز المحرمات:  الدين والسياسة والجنس، وإنما أيضا تهافت وخور وعماء النقد الأدبي لدينا، الذي توقف تماما عن ممارسة دوره، الذي هو هويته الأصلية، أي توقف النقد عن أن يكون نقديا، وصار تبريريا وتزيينيا،  وصار الناقد مزين وحلاق وكافيرجي، مهمته تجميل القبيح.. 
ومن ثم لم يعد النقد الأدبي لدينا مرشدا وهاديا للأدباء، يقدم لهم يد المساعدة وينقذهم من هيمنة حالة  التردي والتخبط والفوضي، التي جعلت من الأدب مجرد موضوعات تعبير مدرسية، وثرثرة فارغة، وهلوسة مرضية، تحت مسمي كتابة الرعب، أو كتابة اليومي والمعتاد والهامشي، أو كتابة السيرة الذاتية،  أو أخيرا وليس آخر أدب المحجبات، أو الروايات السلفية.. إلي آخر الأدب الصغير التافه المديوكر..
هذا النقد الأدبي لدينا هو المسؤل مباشرة عن تردي الأدب الآن، إذ تهيمن عليه حالة من اللا أدرية، تحت مقولة انتهاء التقييم، فلم يعد ناقد واحد يجرؤ  علي قول هذا جيد وهذا ردى،ء، لأن كل شيء مباح، وكله ماشي، ودع الزهور تتفتح، حتي لو كانت زهور صناعية بلاستيكية..
هذا النقد الأدبي فاقد هويته وجوهره، وسبب وجوده، فلم يعد نقدا، ولا يحزنون، وكل ناقد يقول تهربا أن النقد مات،  وصار مجرد قراءة، والناقد لا يعدو كونه قارئ  ضمن القراء.. وهذا ببساطة يعني أن القراءة ليست |إلا استهلاك العمل، وقبوله دون قيد أو شرط، أيا كان، وليس لها القدرة علي معرفة العمل الجيد من العمل الردىء، وإن أحس ناقد ما، أو قارئ ما بأن العمل الذي يقرأه رديئا، لا يخبر أحدا بذلك، خشية من اتهامه بممارسة سلطة لم تعد موجودة، وواقع في فخ يقين قديم، وأنه نائم يحلم بعالم انتهي..
                                                *
ما العمل الأدبي الحقيقي الجيد إذن، ما أصله وفصله وهويته التي تعطيه وجوده وكيانه؟ 
والأجابة: إنه إبداع. 
وما الإبداع؟ إنه: 
الأتيان علي غير مثال..  
وهذا يعني أن العمل الذي يأتي علي مثال سابق ليس إبداعا، ومن ثم ليس أدبا، وإنما مجرد موضوع تعبير.. مجرد تكرار ومماثله وثرثرة وانحطاط..
وهذا أيضا يعني أن التمثيل والمحاكاة والانعكاس والتقليد والتعبير.. ليست من الابداع في شيء، لأنها كلها إعادة وتكرار، لشيء سابق وموجود، إعادته كما هو عليه ، أو باضفاء الانفعالات عليه، أو بالسخرية منه، أو تصويره بشكل كاريكاتوري بغرض تشويهه، 
كل هذه الآليات النقلية المحاكاتية التقليدية ليست من الابداع في شيء، وبناء عليه يصير أدبنا كله برمته تكريس لما هو موجود، وإعادة انتاجه وتكثيره، وذلك كله تحت  المقولة الاسطورية البالغة السخف: 
لا جديد تحت الشمس.. 
وإن موضوعات الأدب لا تزيد عن رقم كذا.. منها الهجر والنحيب والبكاء علي الطلل والشجن  والمديح وو الخ .. ولا يخرج عمل أدبي عن تلك المواضيع أبدا.. 
                                                      *
لا.. هناك جديد تحت الشمس دائما، بل ان الشمس ذاتها تتجدد وتتغير، ولها عمر وزمن  وبداية ونهاية، مثلها مثل كل شيء في الكون، بل ان الكون ذاته ما هو إلا صيرورة دفاقة من التغير الدائم.. ففي كل لحظة هو جديد تماما، فلا أحد يستطيع نزول النهر مرتين، وربما مرة واحدة حتي..
إن مفهوم الإبداع الذي هو: الأتيان علي غير مثال، هو قانون الصيرورة المتغيرة أبدا ذاتها، التي تحكم الكون المتجدد أبدا؟ 
إذن ما الجديد؟
لابد أن نعي أن الجديد، إذا كان جديدا حقا، أي أتي علي غير مثال سابق، فهو لن يعرف، فكما تقول الهرمنيوطيقا، أننا لا يمكننا معرفة الجديد إلا بالقديم، فلو غامر وتخيل أحد مبدعينا الأشاوس، كائنا جديدا لا شبيه له، لابد حتي يصفه لنا، أن يقربه، عن طريق تشبيهه بأشياء موجودة ومعروفة لنا، 
مثلا يقول إن وجه ذلك الكائن الجديد الذي يتخيله، يشبه وجه النسر، وأذرعه العديدة تشبه أذرع الأخطبوط، وأقدامه طويلة تشبه أقدام الزراف.. وهكذا يعطينا صورة تقريبية للكائن الجديد، حتي نراه ونستوعبه. 
وهكذا حتي يعرف الجديد، لابد وأن يكون قائما علي انقاض القديم، 
ولكن كيف يكون الجديد هادما للقديم، وبانيا الجديد في ذات الوقت.
لا يأتي القديم إلي الجديد  ليعمل نفس ما كان يعمله وهو قديم، وإنما يفصل عن أنساقه المعرفية التي كان يعمل لها ومن أجلها، ويعمل لصالح الجديد، وبهذا يقوم العمل الأدبي الجديد علي الهدم والبناء، هدم الأنساق المعرفية القديمة المحرمات والعادات والتقاليد الشائعة المستقرة الزائفة وبناء الجديد الواعد الحر المتحرر، فنعرف ما هدم في الجديد، وما جاء بديلا من القديم والأكثر جمالا وحرية..
هكذا يستطيع النقد الأدبي الآن إعلان وجود معيار عام قبلي، يقيس عليه كل الأعمال الأدبية، ليس لدينا فحسب، بل إينما وجد علي كوكب الأرض، وفي الكون كله، فارزا الجديد من القديم، والجيد من الرديء، واضعا كل عمل في مكانه ومكانته، ومتخلصا من حالة اللأدرية والانحطاط، ودافعا الأدب إلي الجديد المفارق الهادم الباني، 
وبذلك يتنفس واقعنا الأدبي نسائم الإبداع الحقيقي، ويستشرف المستقبل، ويتجه إليه بقوه، 
ويصير المبدع حقا وحقيقة: مًشرّع.. وليس تابعا لما هو سابق ومستقر ومساير، وخاضعا لما هو موجود ومتكرر..
إن الإبداع رود، ومغامرة، واقتحام، وقفز في المجهول، وهدم وبناء، وخلق بدائل غير مسبوقة، وتقدم، وازدهار، ورواء، ونعمة، وفيض لا نهائي، وحياة غانجية، ولعب ومرح وشجاعة، وعلو وأناقة وجسارة وشجاعة، وأتيان علي غير مثال..     
ومن ثم يصير النقد الأدبي نقدا أدبيا حقا، يري بوضوح وعمق الجديد الجيد ويشير إليه، فيظهره ويدفع به إلي مكانه ومكانته التي تليق به، ويشير كذلك إلي الرديء ويحذر منه ويقصيه ويحكم عليه بما يليق به من انحطاط وخور  وتكرار وتطفل ومهانة وموت..
إن الإبداع طريقنا للتحرر من الماضي، وتكراره الأبدي، إنه القدرة الإنسانية علي التشريع وطرح البدائل، والتجدد الدائم الخلاق لثقافتنا ومجتمعنا وإنساننا  الناضج الجميل الحر الذي نريد.


* من صفحة الروائيّ صبحي شحاته على الفيسبوك. 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم