لم أتابع روايات البوكر العربية كما تابعتها في دورة هذا العام (٢٠٢٢)، إذ قرأت ثمانيَ روايات من أصل ست عشرة رواية، منها أربع روايات انتقلت إلى القائمة القصيرة، بعضها لم يكن جديراً، بل أزعم أن من روايات القائمة الطويلة التي خرجت من المنافسة، مثل رواية "رامبو الحبشي" لحجي جابر، كانت أجدر بالصعود، وربما بالمنافسة على الجائزة، لو كانت الجائزة تحتكم إلى المنطق الفني في الكتابة الروائية، على الأقل كانت رواية حجي أجدر من رواية "الخط الأبيض من الليل"، ومن رواية "يوميات روز"، المستغرب دخولهما القائمة الطويلة من الأساس.
وإذا استثنيت احتمالية جدارة رواية من الروايات التي لم أقرأها، فإن المنطق يقول بأن رواية "ماكيت القاهرة" لطارق إمام هي الرواية الأوفر حظاً، وبفارق فني كبير عن بقية روايات القائمة الطويلة والقصيرة، إلا لو كانت لجنة تحكيم الجائزة عوراء مثل "بلياردو" أحد شخصيات الماكيت، وهذا -مع الأسف- وارد، ومجرد وروده مخجل فما بلنا بوقوعه حقيقة، لأن "ماكيت القاهرة" رواية استثنائية ومثالية، وعندما أنظر إليها وأضعها في ذهني بشكل بانورامي مع أهم الروايات العربية التي سبق وأن فازت بالبوكر، أجد انسجاماً حقيقياً، يضيف لتاريخ الجائزة، ومؤكد أن الأعمال الجيدة هي التي ترفع من قيمة الجائزة فنياً لدى جمهور القراء.   
لا أود أن أوجه رسالة بهذا الحديث، ولست معنياً بتداعيات المواقف اللاحقة لإعلان الجائزة، فالجميع يعلم بأن لكل جائزة تاريخ مع الخذلان، سواء خذلان القراء بالدرجة الأولى، أم خذلان الكتاب، الذين يتفاوتون في مواقفهم من فكرة الخسارة، فبعضهم يتأثر تأثراً كبيراً، وله العذر، خاصة مع طريقة إعلان الجائزة، وحفلتها التي يكون فيها الكثير من الحرج، وبعضهم يتجاوز الموقف ويواصل مسيرة الكتابة، فهي الأساس، والجائزة الحقيقية، التي ينافس بها الكاتب الزمن وقلق النسيان، فماذا بيد الكاتب غير الكتابة ليفرح بها؟! إذا ما كان كاتباً حقيقياً بطبيعة الحال.
ما أود قوله بكل صدق ومحبة، ومع اقتراب موعد إعلان جائزة البوكر للرواية العربية، أن نتائج الجائزة، لا يجب أن تجعلنا نحيد ونبتعد عن الهدف الرئيس منها، فهي لم توجد إلا لتنشيط حركة التأليف والقراءة لهذا الفن، وأنا لا أقصد هنا الهدف الذي تدعيه الجائزة لنفسها، ثم تحيد عنه، بل أقصد الهدف الذي يتحقق بالفعل، ويتحقق حتى رغم أنف الرافضين لفكرة الجوائز الأدبية، وأن ننظر إلى المكتسبات الثانوية أيضاً، وهي في غاية الأهمية، مثل أن يعرف الكتّاب مدى قبول أقلامهم داخل الحقل، وتتسع دائرتهم، وأن يتمهروا في تحريك منتجهم، وفي التعامل مع طرق التلقي المتباينة، وأن تكون صدورهم مفتوحة دائما، و أن يميزوا بين القراءة الحقيقية لمنتجهم، والقراءة الآلية بهدف المشاركة والتفاعل، وأنا متأكد من أن بعض من يحجم عن التقدم للجوائز الأدبية من الكتاب المهمين، فاتته تجربة الهجوم الجماهيري على تجربته، ولا أحد منهم يدعي بأنه قادر على توقع هذا المستوى من التلقي، فهناك على الدوام مناطق عمياء لا نراها، وفرصة رؤيتها لا تقل أهمية عن تجربة الكتابة ذاتها، خاصة مع فن الرواية، الذي يستثمر كل موجودات الحياة داخل الكتابة وخارجها.
من ناحية أخرى هناك فرصة للروايات المهمة والجديرة بالقراءة، التي لم نجد لها وجوداً في قوائم الجوائز، فمن الممكن أن يكون في الجدل حول عدم الانتباه لها، أو ضعف حظها، فرصة أخرى لإعادة النظر فيها، فالسباق الحقيقي ليس مرهوناً بجائزة ما، ولا بوقت محدد، والجميع يعرف أن هناك روايات جاء الانتباه لأهميتها متأخراً جداً، وأن بعض الكتاب اشتعلت أعمالهم بعد رحيلهم بعقود.
لذلك نحن كمهتمين ومتابعين علينا دائما التمسك بفكرة الكتابة الجيدة، سواء كانت داخل قوائم الجوائز أم خارجها، وعلينا أيضاً أن نكون محكمين لهذه التجارب بشكل من الأشكال، ولدينا مقاييسنا النزيهة، التي تحتكم للجوانب الفنية، وليس للشهرة والجوائز، فللجوائز -إذا تسامحنا معها- ظروفها الخاصة، ويصح أن تكون منصفة مع كاتب ومجحفة مع آخر، هذا وارد جداً، مع ذلك علينا أن نكون العين الواعية والصادقة التي تعطي الأعمال حقها الطبيعي، سلباً وإيجاباً، فالمتلقي في نهاية الأمر هو الحكم الصادق، خاصة في ظل وجود تكتلات الزيف والتضليل التي تقودها دور النشر والجوائز الأدبية على السواء، إلا من رحم طبعاً.
أخيراً، كل الأمنيات الطيبة للكتاب المتنافسين على الجوائز الأدبية، وللذين هم خارج المضمار، لهؤلاء نقول أن قلة عديد قراء أعمالكم لا يعني عدم أهميتها، أو أنها أقل، فلو نظرتم إلى التاريخ الأدبي ونصبتموه حكما عدلاً، لعرفتم حق المعرفة أن الأمر غير محكوم لا بجوائز أدبية ولا بمجد آني وشهرة مؤقتة، بل بصيرورة تاريخية، أحياناً تحتاج إلى مرور حقبة تاريخية كاملة ليتضح ما هو الأهم والأجدر بالبقاء، فالأعمال الجيدة هي التي تحارب النسيان، وقد قيل المعاصرة حجاب، ونحن شئنا أم أبينا تحت نير هذا الحجاب، وإن ادعينا أن لدينا رؤية ثاقبة.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم