-1-

لعل العلة الأقسى التي يعلن عنها الكاتب كأنها خاصية إبداعية..هي التباهي أن "القلم يجري وحده" وهو يتبعه فحسب دون تدخل، تاركا له الخطّ على الهوى، والهوى غدار يعمي البصيرة ويقود المرء إلى الهفهوف..يدفعه إلى القفز ويتركه في هاويته..وإذ يسقط، فإن درجة تورم الذات تختلف حسب الجانب الذي تأذى من الوقوع.

ويبدأ في "التسطير"- بالمعنيين الفصيح والعامي-، فيصوغ تأويهات تتكرر حد الرتابة أو يدفع رأس الهوى المشجوج إلى نزف الخواطر حد رغبة القارئ في الفرار كي لا يغرق.

-2-

إن الكاتب المبدع مهندس، بالتالي، يتوجب عليه تحديد مخططه التفصيلي بكل دقة من العماد بأسسه السردية إلى الجدران الأسلوبية فالأسقف المعرفية، فطريقة التقسيم، إذ تسمح له هذه العمليات الفكرية أن يختار التصميم الأنسب.

ثم ينطلق، لكن، أن يبدأ عشوائيا ويعتبر الكتابة فعلا يستدعي ما بعده، فهذا لا يليق بالفكر الإبداعي الذي لا يرضى أن يحيا " على الهمكي" فهو فعل واع، لا يتناقض ذلك مع المغامرة، التي ستجعله يكتشف دروبا ويتوه وقد لا يخرج من النص سالما - حسب اعتبار كل شخص للسلامة، "اخطا راسي واضرب"، "عملت الي علي"، " "الفايدة كتبت، كان خطفت وعجبت فبها ونعم، كان ما راقتش، الحل موجود: "حرود" الي يروقك...-

عدم خروج الكاتب سالما هي ببساطة الغاية لأنه تخلى عن ركنه الآمن، واتخذ المجازفة التي لا ترادف التهور سبيلا، لأن القارئ بدوره يجب أن يشعر بعد المطالعة اختلافا ما في مفهومه للسلامة، وأن في روحه "قامت القيامة". 

إذا أحس المرء أنه يبعث من جديد فذاك ما يثبت أن النص فريد، فالخريطة التي بحوزة المبدع ليست قدرا، لكنها  سبيله إلى الانعتاق.

لذلك لا يتجاهل الفرق بين أن يكون بناؤه فوضويا وبين أن يمنح الفوضى منطقا فيصيّرها بناء سرديا سويّا بتصميم لافت.

-3-

الكاتب ليس مطالبا بتقديم حلول، غير أنّه ملزم ألّا يعمق الأزمة.

قد لا ترتبط المهمة الإبداعية بإيراد احتمالات تشرع منافذ ممكنة للانفراج، وهذا رأي طرحه أحدهم، ولقي استحسانا ورواجا حتّى احتلّ مرتبة المقياس، لكنه، حجة لتبرير التهاون في الاستجابة لكل ما تتطلبه المحاولة، وتعلة دامغة يرمى بها من قد يتساءل عن حجم التقصير الذي يضعف القيمة الإبداعية للنص.

ما الحل؟: أليست الكتابة في حد ذاتها كفعل واع حلا؟ أليس تضمين هذا الفعل غاية محددة أو مقصدا معينا، من أشكال بلورة الاقتراحات التي لا يجب عرضها كاستنتاجات، ويستقرئها من يطالع من منطلق التفاعل؟

أليس الكاتب المبدع ككل ملهم، إذ يشير إلى الطريق متيحا كل الفرص ليرى الآخر ما يشاء دون إملاءات، فالحل في الحبكة ليس توجيها مفروضا، وإنما هو كامن في جوهر معالجة الموضوع؟

-4-

القراءة الجدّية هي إحياء للنص،  تلفت إليه الانتباه وتشدّ اهتمام من قرأ إلى ما قيل في شأنه، فتستعر الرغبة في الاطلاع والاكتشاف الفرديّ، فالقراءة ليست إملاء لرأي بشكل مطلق، بل هي كفّ ممدودة لقراء آخرين تحثًهم على عبور الجسر من ضفّة اللامبالاة إلى ضفّة النصّ الذي سيستقبلهم بطريقته وسيجولون فيه كما يحلو لهم.

 المقال النقدي الأدبيّ ليس تحريضا للامتناع عن القيام بالمغامرة، بل على العكس تماما، وهو ما يمكن استخلاصه من نقيضه، إثر تجارب سابقة تمّ الثناء فيها بمنجز سردي والإشادة به، فحصل التحفيز للوقوف عند معلم مغاير لما تم عرضه واستعراضه بمفاتيح لفظيّة فضفاضة، لأن من قرأ لم يحضن في حقيقة الأمر النصّ حضنا مستحقا لاستعراض الظاهر واستجلاء المكنون، وإنّما انطلق من انطباعيّة منحازة إلى صاحب النصّ مهما قدّم -أو حتّى لم يقدّم-، بل ملأ أوراقا لا قيمة مضافة لفكرتها في أسلوب يكشف عدم التمكّن.

كلّ قراءة هي تحفيز إذا ما احترم القرّاء الذين لهم شخصيّتهم ورأيهم، ولا يسمحون بالانصياع والانقياد، وأعود إلى ما قالته كاتبة تونسية، الذي على قسوته التثبيطيّة، فهو لا يجانب الصدق، حين أكّدت أنه تقريبا لا أحد يتجشّم عناء ضغط روابط المقالات، وأن المتفاعلين ما كانوا ليعجبوا أو ليمرّوا إلى التعليق لولا اسم صاحب المقال، فهو المحفّز لا نصّه، ليسجّل كاتب المقال الذي يتمتع بجماهيريّة افتراضيّة "معروفا" في مرمى كاتب النص، لذلك، لا تتضمن التعليقات تفاعلا مع مقال وإثارة للنقاش ومساءلة واستفهاما، بل مجرد شكر لجهد من كتب المقال أو صاحب الأثر، لذلك قلّة من يطّلعون والبقيّة يكتفون ب"جام" و"جادور " للمنشور "ماخذة في الخاطر أو ضمانا لاستمرار العلاقة التبادليّة، جاما بجام و"جادورا" بنظيره أو تعليقا لردّ "الجميل التفاعليّ"، لكن،  تبقى تلك الكوّة التي يتسلّل منها أمل عنيد يؤكّد أنه على الأقلّ، حتّى وإن لم يُقرأ المقال، فقد بلغت المعلومة أنّ  هناك جهدا إبداعيّا تمّ وسمه بعنوان لتمييزه وليأخذ مكانه مع ما سبقه وما سيلحقه، في ترقّب على الدوام لتأصيل المكانة.

 -5-

رائع" و "عظيم" ثوبان يسعى المتصدق بهما، أحيانا إلى التكرم على نصوص لا يغطي سوءة عوزها الإبداعي سوى أسمال من مفردات بالية، ومحاولة التصديق أنهما على مقاس هيكل لغوي مروع، لتجرده من لحم المعنى الأصيل ومعاناته من هشاشة عظام الفرادة.

 فليجتهد الفكر تأملا وتفكرا وتأويلا وتفاعلا ليتجنب الاستسهال ولا يكتفي ب "الترويع" أو "الروعنة" واستلال"عظمة"  من العظام أو  "التعظيم" ..لأنهما وغيرهما من العبارات الفضفاضة  تؤبد التقييم السقيم.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم