من المؤسف أنّ حقل الأدب الذي يكون الرهان عليه بأن يكون خطّ الدفاع الأوّل لمناهضة الشوفينية ينزلق إلى مستويات لا تليق بسمعة الأدب المفترضة، ويغدو مسرحاً لممارسة مختلف أساليب الشوفينية من إقصاء وإلغاء وتأثيم وتقزيم بغية النيل من الآخر الذي يتمّ وضعه كدريئة لتوجيه الأحقاد المختلقة إليه، وبالتالي الركون إلى وهم الجدارة والاستحقاق.

ينبع الإشكال الرئيس بحسب ما أعتقد من مزيج مرضيّ تتداخل فيه النرجسية والأنانية مع الغرور ومزاعم التفوّق وأوهام الفرادة، وذلك في واقع الاستقطابات الحادّة المنطلقة من اعتبارات متعدّدة، بحيث تمنح أصحابها نوعاً من التضليل بأنّهم يستحقّون تصدّر المنابر والتتويج بجميع الجوائز، وتكون الصدمة المصاحبة أو اللاحقة حين تقابَل الأعمال بنوع من التجاهل، أو تضيع في زحام الإصدارات المتدفقة بشكل كبير، ما يحرّض لديهم نوعاً من العداء والاستعداء تجاه الآخرين الذين يتمّ تحميلهم المسؤولية، وتتمّ تغذية الأنوات المتضخمات بالحطّ من قيمة الآخرين، واتّهامهم بالقصور عن الوصول لمراتب التفوّق المتوهّمة.

هناك نوع من التهيّؤ للانقضاض على الآخرين وكيل الاتّهامات لهم، وهذا يعكس الانكسار الذي يعيشه كثيرون في دواخلهم، ويعزون أسباب الانهيارات والهزائم التي يعيشونها ويعانون منها لأسباب ومسبّبات خارجية، فيفسحون بذلك المجال للغلّ المتراكم بالتفجّر وتوجيهه إلى جهات أخرى ربّما تكون هي نفسها ضحية وقائع وأحداث وأفكار وممارسات معيّنة.

أشعلت وسائل التواصل الاجتماعي سعار التجييش والافتئات، بحيث نشأت عصابات إلكترونية ثقافية تتبادل التنفيعات، المادية منها والمعنوية، هنا وهناك، توجّه نفوذها وأتباعها من المتابعين نحو تشويه مَن تعتبرهم خصوماً ومنافسين. وأخشى ما أخشاه أن يندرج مسْعى تلويث وتشويه الكلّ حتّى يكون التساوي بالانحدار والتنافس على مَن يتفوّق على الآخر بالشعبوية والعدوانية.

أعتقد أنّ الأمر يعود إلى انعدام الثقة بالنفس، أو ما يمكن توصيفه بالشكّ المتغوّل في الأعماق والذي يقضّ مضاجع مَن يسكنهم أو يعديهم بعدواه، فيكون الضياع والبحث عن منافذ لتفريغ شحنات الطاقة السلبية المتفاقمة.

وإلى أي حد ساهم الصراع على الجوائز في ترسيخها؟ 

يفترض بالجوائز أنّها تدعم مجالات الإبداع المختلفة التي تخصّص لها، وتعمل على تكريسها والاحتفاء بالمنجزات المتراكمة فيها، وهي بذلك تؤدّي مهمات جليلة بتقدير الإبداع وأصحابه ومكافأتهم بحسب المتاح، لكنّ المشكلة تبدأ حين يتمّ تحويلها إلى ميدان للصراع والتصارع وكأنّ الأديب في سباق وصراع مع المرشّحين الآخرين الذين ينبغي عليه، أو على شلله وعصاباته العابرة للحدود، الانتصار له بتشويه خصومه، وإبرازه المستحقّ للتتويج، ما يفقد الجوائز أهمّيتها ويخرجها عن مسارها ويحوّلها إلى أدوات لضرب الإبداع وليس الاحتفاء به.

هناك عقد واضح المعالم والتفاصيل بين أية جائزة والمتقدّمين لها، فحواه أنّه طالما يتمّ التقديم عليها فيجب الالتزام بشروطها، وأنّ الأمر برمّته لا يخرج عن سياق العقد بأنّه ليس بالإمكان أن يربح الجميع في أيّة جائزة، وأنّ من الأهمية بمكان تقبّل النتائج، وإن كانت هناك ملاحظات أو انتقادات، لا بأس من إبدائها وإعلانها بحيث تبقى ضمن حدود الأدب وفي إطار لعبة الجوائز نفسها.

يكون الخطأ الذي يقع فيه كثيرون، والذي تساهم الجوائز بطريقة غير مباشرة في تكريسه، حين يتمّ تقديم الأعمال الفائزة بأنّها الأفضل في عامها، وهذا يسيء للأعمال الأخرى، وهنا أعتقد أنّ الأعمال المختارة للفوز لا تتجاوز كونها تعبّر عن وجهات نظر المحكّمين ورؤاهم وتصوّراتهم، كما تعبّر عن ذائقاتهم الأدبية، وهي «الأفضل» بحسب لجان التحكيم، ولا أشكّ أن اختلاف لجان التحكيم يعني اختلاف توصيف الأفضل، وهذا هو أحد المعايير الذي لا يمكن التنبّؤ به، والذي يثير الحنق والغيظ عند كثيرين ممّن يجدون أعمالهم أفضل من الأعمال المتوّجة بالجوائز التي تقدّموا لها.

وكيف نعمل على تحجيمها؟

لعلّ الأمر يبدو بسيطاً بقدر ما يبدو معقّداً، لأنّ الأساس هو تقبّل الواقع وعدم الارتكان لليأس الذي قد يجتاح مَن لم يحالفه الحظّ باختيار عمله ليكون ضمن قوائم الجوائز، والإيمان بأنّ الأدب أهمّ من الجوائز، وأنّ الجوائز تستمدّ قيمتها واعتبارها وتقديرها من الأدب وليس العكس.

كما أنّ من الأهمية بمكان أن يبتعد إعلام كلّ بلد عن التعامل مع الأعمال المرشّحة للجوائز من بلدها وكأنّها في فرق ومنتخبات وطنية تخوض مباريات كروية وعليها تحشيد أكبر قدر ممكن من التشجيع لها بحيث تشكّل ضغوطات على لجان التحكيم، وتصل لدرجة تعتبر أن فوز عمل ما أو خسارته هو فوز للبلد أو خسارة له، وهذا ظلم للجوائز والبلدان والأدباء جميعاً. وينطبق الأمر على أنصار هذا العمل أو الأديب أو ذاك في بلدان أخرى غير بلده.

لابدّ من وضع الأمور في نصابها والنظر إليها بحجمها الطبيعي، والتيقّين من أنّ لكلّ جائزة حساباتها ومزاجياتها وأساليبها، ولربّما «ألاعيبها»، وأنّ التقدّم لها لا يعني الفوز وأن عدم الفوز بها يعني الخسارة، لأنّ الأدب أكبر من كلّ الجوائز، والعمل الحقيقيّ الجادّ والصادق والمستحقّ يجد طريقه للانتشار ويبقى على الرغم من أنف الجوائز ولجان التحكيم.

على الأديب أن يثق بعمله وأدبه ويعي أنّه لا يكتب من أجل الجوائز، وأنّه ليس حصان رهان وتسابق في مضمار صراع مع المنافسين، لأنّه لو تخلّى عن ذلك فسيبقى نزيل القلاقل والتوجّسات والوساوس التي تلقي به إلى مدارج الشعبوية والاستعداء والقنوط، ولن يبارح متاهته التي تقيّده في زنازين الوهم والإيهام.


* رأي في  ملف "الشوفينية العربية" وباء قديم أحيته الجوائز، في جريدة أخبار الأدب المصرية.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم